كلما رددت غنوة السياب في المطر وله وعنه توقفت عند سؤاله الجارح أتعلمين أي حزن يبعث المطر فأجدني أرتد عقدين من الزمن وأسائل الطفلة بداخلي أكان حزناً
ما يبعثه فيها المطر؟ فتجيبني: لا – والله – بل كان رعباً ما زلت أذكر تفاصيله: هزيم الرعد,, نشيج المزاريب,, جدران الطين التي تتسع شقوقها هلعاً تلفظه
مع أعواد القش التي تنسل من لبناتها,, ساحة البيت الزلقة,, الأحذية القديمة، قطع الخيش، الملابس الخلقة حين تدسها أمي في الفك السفلي لعمود المصباح النهم
أبداً,, الأواني والقُدور – التي نغرف بها بعض الماء المتجمع كبركة صغيرة قرب المطبخ – نتهادى بها في ساحة البيت الملساء لنصبها في جوف الشارع الغرقان,,,
أذكر الآن طقطقة فروع الأثل في سقف حجرة أمي,, رائحة جريده الحائل المغبر التي تثيرها الرطوبة,, ابتهالات أمي المتلجلجة حذر أن يعيها السقف فيسجد مؤمنّاً,
لكنه – رغم وجعه – لا يفعلها، يتحامل لأجلنا ممنياً أعضاءه المبتلة بشروق جديد يبزغ مع آخر صيحة لأنأى ديك في الحارة فتدفأ عروق الأثل الباردة ونتقافز نحن
الصغار نفرك أهدابنا لنطيّر فزع البارحة ثم نخرج,, نتراكض متتبعين بصمات أقدامنا على صدر ساحة المنزل، نحسب أينا أكثر خطوات، نختلف فنتعارك ثم نكركر إذ
نلمح آثار سقطة لأحدنا ما انتبهنا لها في الليل,
بعد الحليب أو قبله لا فرق نتخفف من ملابسنا لنلحق برفقة لنا ممن استكشفوا الأزقة البعيدة وحددوا أيها أغزر ماءً لنخوض فيه؛ الصغار يداعبون ضفافه والصبية
يقتحمون لجته ممتطين باباً أسلم للسيل قياده, يوازنون أنفسهم فوقه ثم يغرزون أكفهم الصغيرة في أحشاء السيل مجدفين صوب جزيرة الكنز كما جيم هوكنز ,
تنهي الصغيرة كلامها وألبس وجهي الجهم الرصين وأتساءل اخرى: ماذا بقي فيّ من مواسم المطر: فرحتي الطفلة,, أم رعب أمي,, أم ذكرى شائخة تثير حزنا كحزن
السياب؟
جريدة الجزيرة
يونيو ١٩٩٨