الكاتب والناقد: د. منصور المهوَّس
مدخل :
” روحها الموشومة به ” لأمل الفاران – دائرة الثقافة والإعلام ، الشارقة 2004م والحاصلة على جائزة الشارقة للإبداع العربي – رواية لديها ثقة في ابتكار الكيفيات التي تتعدد بها وسائط نقل المحكي المسرود ، سرد مركب غير مستقر كثير الزلازل ؛ لأنه يتعامل مع منطقة ” الجواني ” – في تعبير سعيد يقطين – منها يكون الانطلاق والتراسل لإنتاج نص مضمر وملعن في آن ، يستمر الإجراء السردي يتوالي ويتداخل ويتشتت وتتلون صياغاته بتيمتين ( الحلم والدائرة ) نص موشوم ” بوشم ” التعدد والثراء ، قائم على حاملين :خطاب الأحداث ، خطاب الأقوال. في إنجاز سردي تجريبي ، يكسر آماد السرد التقليدي المعتمد على طريقة التتابع الزمني التراتبي ومتعلقات السابق باللاحق إلى ابتكار بدائل فنية تنتهك بنية التتابع لتقيم على أنقاضها بنية الحلم والذاكرة المغذية لهذا الحلم ، فأسلوب تقديم الأحداث ” المنظور / التبئير ” في ذهنية المتلقي نزاع للحداثي التجريبي ، يخلخل أفق القارئ وعاداته القرائية ” إذا استخدمنا بعض عبارات أصحاب جماليات التلقي ”
الذات المعطوبة المأزومة الموشومة بوجعها الأزلي تحوّل الرواية إلى استلاب ذاتي تشاكسه وتفضحه الشخصية الرئيسة ( وسمية ) ومجاوراتها من شخصيات ثانوية المكرسة للفضح والتجلي ( تحول السرد إليهن في إحدى عشرة بنية سردية ، أكثرها لأختها ريم ) ، وجميع خطابات الرواية ( طقوس الأحلام ، متاهات الدائرة ، تشظي الزمن ، الكتابة وتعريتها للذات والآخر ، التفاعل النصي ) تعاضدت للكشف عن أزمتها الوجودية والاجتماعية والنفسية . خطابات – انزياحاً – وإلا فهي لم تتجاوز وعي زمن الحكي .
طقوس الأحلام :
متداولات الحلم بمستوياته المتشعبة مستحضرة كثيمة سردية ولعبة حكائية تستفز الشخصية نحو البوح ، والأحلام هي المفتاح الحقيقي للشخصية الأنثوية ( وسمية ) المكبوتة بالسلطة الأبوية ، واصلةً بين الحلم ورغبات الحالمة وظروفها النفسية الاجتماعية برباط سردي متشتت شتات الذات المأزومة داخل المتن السردي ( أسير على أرض زلقة ، أعشابها الرطبة بدل أن تنعش أقدامي الحافية كانت ترعبها ، الخضرة والماء تحتي تنبجسان عن ديدان لا حصر لها تنهش لحم رجليَّ . أركض فلا تطاردني ؛ إذ كل أرض جديدة أُسلمها قدمي تُخرجُ من جوفها كل شرورها ، ديدان مسعورة تريدني ) ص 117 .
الأحلام في الرواية تأخذ ناحية تأويلية متعددة الرموز والشروح ، فالرمز الحلمي قابل لاتخاذ جميع الدلالات الممكنة تبعاً للشخصية الحالمة ، والمتلقي يستقبل نصاً لغوياً منزاحاً بالمجاز أي التكثيف الملغز ، كما في منظور ” جاك لاكان ” بنية الجملة ، بنية اللغز أي بنية الكناية ، المتوجّب على المفسر ” دكتورة منال ” البحث في يوميات وسمية للوصول إلى التفسير القريب ، بانيةً تأويلاتها على بقايا أحداث النهار والليل في حياة وسمية وحشاشة ذاكرتها ، جاعلة منها منجماً لتفسير متاعبها اليومية ، ووسمية لها خبرة بأحلامها فتعرضها موضوعا واضحا لها أثناء تشكُّل الحلم في منامها ، مما يجعلها قادرة على حكي تفاصيل أحلامها بعد اليقظة التامة . بلغت الأحلام ( 22 ) حلماً ، وكلها تنال تفسيرا قائماً على خريطة أحداث أيامها ، بعد تحويلها من شكل غرائبي فوق الواقع إلى رواية لغوية ، مانحة المدخل نحو الحياة الخاصة للحالمة وجعلها وثيقة الصلة بسلوكها اليومي ، مما منحها مسرباً نحو التفسير الجواني ، تتدخّل السلطة الرقابية الذاتية أحياناً في تحويرها عن طبيعتها الأصلية .
أغلب هذه الأحلام تُوظّف لتصوير ” الليبيدو ” وهو قوة يفزع منها الإنسان ويغالبها بالكبت في رأي فرويد . ترى حلماً فترغب أن تحكي تفاصيله للدكتورة لكنها تخجل ( أخجل من أن أقول لها أن ليس جميلاً أبداً ذاك الذي يسابقني إلى فراشي .. لهاثه الحشرجة لا يمكن أن أحتمله ولو قيل لي أن وراءه ما وراءه فكيف وأنا لا أعرف ما وراءه ، وهي لا تخبرني )ص 37.
قوة ضاغطة على الشخصية تظهر وتتشكل في الحلم ترهبها وتغالبها بالكبت والحرمان بسبب هذه السلطة الأبوية ، فيأتي الحلم ليفجر هذه الرغبة المتعددة : جنسية ، انعتاق ، كره ، حب . بعد حلم السيجارة المتكرر تسألها الدكتورة ( أتريدين التدخين ؟ أريد أشياء كثيرة لا تحصل ) ص222 ، وأيضاً بعد حلمٍ يكون التفسير ( أعرف واحداً يستحق الموت و.. كنت أفكر بقتله أعني أخي المراهق )ص 54 ( مخزٍ أكثر أن يخفي وجهي المثالي كل هذا العنف والسواد تحته )ص 54 .
متاهات الدائرة :
خمسة أشخاص يستوطنون أعماق اللاوعي للساردة ، تحوطهم دائرة ، هذه الدائرة كما يراها “ابن سرين ” تحمل دلالات أنثوية ، كما يعطي للأشياء المستقيمة دلالات ذكورية كالقلم … أشخاص وذوات وأزمنة وأمكنة منقلبة متحولة ومتحركة في عالمها الحلمي ، يتحولون إلى ظلال خلفية لذاتها ( … الآن أريد إخراجهم ، ولا أعرف ماذا يريدون ، وإن كانوا لا يزالون على ثقتهم فيَّ؟ وإن كنت لا أزال أمتلك تلك الروح التي بها وصلت إليهم ؟ ) ص 105 .
يخرج اثنان ( مطير وبارق ) والبقية تتوسل بالحلم ذاته أن يعينها على إخراجهم (لا بد من حلم يقول أكثر..اطلبي حلماً يخبرك إلى أين وصلتِ ؟ وأين الثلاثة ؟
) 108ومرة أخرى تلجأ لصديقها الأمل ( … كنت أتمنى لو يكون المنقذ لي ، الفارس الذي يحملني بعيداً عن دائرة السوء التي أغوص فيها رغماً عني ) .ص 132.
ويتوحد همها ورجاؤها في الخروج من هذه الدائرة فيتحول إلى همٍّ وجودي يتملك عليها أقطار روحها ويستهلك مشروعاتها في مستقبل أيامها ( … أناديهم بصدق ، أطلب منهم أن يخرجوا من الدائرة ، أن يأخذوني لأخرجهم ، ثم أحاول النوم) ص 233 . فهل الدائرة رمزاً لروحها أم لأنوثتها أم لماضيها ؟
ودائرة السوء هذه تكاد تحيق بالدكتورة منال ” الأخصائية النفسية ومقومة أحلام وسمية ومفسرتها ” ففي آخر الرواية تفرد الكاتبة مجالا محكياً لها ، فبعد أن طلبت منها ” وسمية ” مساعدتها في إخراج البقية تضطرب وتسلك خلجان ذاتها قائلة ( أفكر قليلاً ، البنت تعرف طريقها أكثر مني ، يبدو أن انطلاقتها ستكون من هذا الحلم تحديداً )ص 235.
صور متداخلة مع بعضها ، من داخل الدائرة ومن خارجها ، من خارجها ” أمها ، أخويها سعود وماجد ” تعكس كل شخصية جانباً من شخصية ” وسمية ” لذا تضطر هي أن تبحث في تاريخ هذه الشخصيات وسجل علاقتها بها ، جامعة النظير للنظير لعلها تتوصل إلى محصلة تهدئ روحها المتعبة .
تشظي الزمن :
يتماوج الزمن مع عذابات ” وسمية ” يتنقل معها مجسداً مفارقاتها مع ذاتها ومجتمعها ، نافراً من الخط المستقيم الطولي الصاعد أو الهابط بانتظام ، زمن وليد الداخل وليس الخارج ، تشظي و وتذرير للأزمنة ، وتلاعب بطاقاتها من : خلاصة وحذف وقطع واستباق واسترجاع استلاباً للجواني المأزوم .
ولهذا التشظي إحالاته المترددة بين وحدات زمنية متداخلة :
– زمن مع الأحلام : تم تحديد أول حلم ، وآخرها مفتوح …
– زمن مع الدكتورة منال الأخصائية النفسية : متداخل مع الحضور المكاني للعيادة أو الاتصال غير المباشر.
– زمن مع زوجها ” طليقها ” قبيل الزواج ثم سنتين بعده جسداً ، وثلاث سنوات روحاً مسحوقة بسببه .
– زمن مع صديقها نواف : قبل السرد بخمس سنوات ، لينقطع الزمن الخارجي اليومي ليبدأ بعد الفراق إلى زمن داخلي .
– زمن مع أمها : منذ الطفولة وإلى ما بعد الزمن الافتراضي للسرد .
– زمن مع صديقتها علياء : من زمن دخولها حقل العمل إلى ما بعد السرد .
– زمن مع أخيها ماجد : منذ الطفولة حتى الارتحال خارج الوطن ثم خارج السرد .
ومن اللعبة الزمانية استخدام ” الاستباق الزمني الداخلي ” كما يسميه ” جينيت ” وهي قذف جملة سردية أو جملاً تمهد لحدث سيقع ، من ذلك الحلم الذي رأت فيه أخاها ماجداً ، وأيضاً التمهيد لحدث طلاقها ( والمفروغ منه أكثر أن هذه العلاقة الهشة لن يلزمها أكثر من شهرين أو ثلاثة بعد الولادة لتتهاوى )ص 199.
زمن للأحداث وللأقوال يشيع فيه التذبذب أو التشويش في تعبير ” تودورف ” مجسداً الامتزاج بينه والحالة المنظورة والبؤس الطافح فوق قشرة الذات ليكشف عن التأزم الروحي والأخلاقي والثقافي والاجتماعي من خلال مدركات الرؤية الساردة .
الكتابة تعري الذات والآخر :
تلوذ الساردة بالكتابة في مواجهتها للذات والآخر/ الرجل ، المجتمع . مواجهة مراوغة ليس نهايتها الاختباء أو الفرار ، بل محاولة لتطنيب علاقة معرفية جديدة وفق عمقها المعرفي والثقافي نحو الذات والآخر ، وعي ليس خالصاً بل تتشبث به مفهومات إشكالية صاهرة لكل منتج للتجربة مع الذات والآخر ، الرازحة تحت وجع المفارقة الاجتماعية والثقافية للمجتمع الذي تعيش فيه ، و” الإرادة الحرة في الإبداع هي نقد الذات ، والتعبير عنها في أقصى حقيقتها في النص ” و هنا نقد يحاول العبور بالنص إلى تجاوز شرَك الحراك الثابت للذات والمجتمع اللذين أنتجا هذا النص .
تتوسل بلغة في تجلياتها شاعرية ذات تراكيب دلالية استعارية نتلمسه في المتن الحكائي ، تنتجها شخصية واحدة وهي الساردة البطلة ، أما ما سواها فيتوارى هذه الفضاء الدلالي .
ويمكن تقسيم خطيئة الكتابة في البوح والتمترس بها ضد الآخر إلى :
– نظرتها لجسدها كأنثى محصورة بنظرة الآخر وتحديداً الرجل ، هذا الآخر يلقنها نظرةً خاصة به تتمحور حول جسدها ، فبعد تشبيه مشيتها بـ ( العسكرية ) تقول ( عجزت وأنا أحاول ، قلت لنفسي ” علي أن أكون امرأةً امرأة ” ، وبدأت دروس المشي الصحيح .)ص 98( أقول قبل أن أبكي : كذا الأنوثة يا مها ؛ إن تبدت أو تأبت فهي مشكلة..حتى تمارين تكبير الصدر عملتها.كم أتعب لتأتي هذه الأنوثة المرادة ! )ص 98 وقبلها قالت سيمون دي بفوار ( أنا لا أولد امرأة لكني أتعلم أن أكون ذلك ) . تصل إلى رفض جسدها وتغيراته الفسيولوجية الفائرة في سن البلوغ لأن المحيط أوصل لها رسالة بأن جسدها هو المصدر الوحيد لأن تكون مرغوبة من الآخر ، وأن يكون منتجا ومستقبلا فقط ، يجردها من ذاتها لتصبح بعد فترة ” أم فلان ” أما هي ككيان وجسد أنثوي مستقل بجماله وأنوثته فلم تتلق أي رسالة أو إشارة من مجتمعها يطمئنها على ذلك ، والمرأة الواعية لكينونتها ترفض هذه النظرة ، ويبقى هذا الرفض على المستوى اللاوعي ، ( ربما كانت جذور مشكلتي والأنوثة تبدأ منذ تلك الفترة..الفترة التي يضج فيها الجسد الطفولي ليتحور و يتشكل كما سيستقر بعد ذلك ، وقتها كرهت فكرة كوني امرأة .حتى جسدي رفضها ظل يقاوم ينطوي على المتبرعم داخلي يرفض إظهاره : الدورة الشهرية في أواخر السابعة عشرة ، وبروز الصدر بعدها بدهر )ص100.حتى صديقها المثقف لم يشذ عن هذه القاعدة المنظورة للمرأة ( فجسد المرأة مركزي في تفكير الرجل بينما جسد الرجل هامشي في تفكير المرأة )ص 142 .
لذا تقول ( أنا أكره المرأة التي تتزوج فيمتص الرجل روحها ، أكره المرأة التي تصبح بعد الزواج شبح امرأة ، كائناً صالحاً للإنجاب والمعاشرة فقط ، ألا تلاحظين أن بريقاً في أعين بناتنا ينطفي بمجرد الزواج )ص 72 .
وعندما تفاجأت بالزوج يقدمه أهلها لها تحاول الانتحار ، وعندما لم تستطع تحاول تأخيره بإذاء روحها وجسدها .؟ الرجل جردها من أنوثتها نقلها مباشرة من العذرية إلى الأمومة دون أن تأخذ نَفَساً ، ( زوجة في التاسعة عشرة ، أم في مطلع العشرين ، ومطلقة قبل الحادية والعشرين ) فهي ليست امرأة بكل ما تفجره هذه الكلمة من دلالة . وفوق ذلك ( بعض كلماته التي وشم بها روحي استلزمت خمس سنوات لأشفى منها ، ومن بعضٍ حتى الآن لم أشفَ )ص 94 .
وعندما يجبرونها على العودة لزوجها بعد تشكل وعيها بذاتها وأنوثتها المستلبة تصرخ في وجوههم بوعي كامل ( لم لا تفهمون الزواج لا يعني لي شيئاً . العلاقة الزوجية المشاعر الوحيدة التي تثيرها فيَّ هي الرعب )ص 225.
ولأنها واعية وراغبة في الدخول في منطقة الأنوثة الحقة ، تتطلع إلى الحب الحقيقي محاولة استعادة ذاتها ( أعترف لها : كم تمنيتُ قصة حب أعيشها يكون الزواج خاتمتها ) ص92 . ( والآن أريد حبيباً !! بالله علي من أين يأتي الحبيب مادمتُ أسدُّ عليه السبل ؟! )ص 83 .
وسعت لذلك وخطت خطوات واثقة مع صديقها المثقف ” نواف ” إرهاصاً للتصالح مع الذات وفك اختناقات التناقض والازدواج نحو ثنائية الرجل والمرأة في مجتمع يكرس هذه الثنائية باقتدار وسابق إصرار ، خطوات تتلمس بها وعيها الحقيقي ؛ لأنها تدرك أن الوعي بالآخر والامتزاج به هو امتداد لوعها بذاتها ( من يدري قد أصبح في غدٍ زوجته .. فما المشكلة لو صورت نفسي بلساني له ) 189 .
وأحلامها لا تخذلها في هذا البحث ( أحلم برجل ، أتمنى رجلاً أضع رأسي على كتفه وأسلمه همومي ليغسلها، رجل يأخذني بيدي ونسير حيث يريد..حيث لا أدري ولا أحاول أن أدري ، رجل هو الدنيا كلها ) ص 130 .
– الكتابة سلاح ضد الاضطهاد الذكوري :
تقول : ( في ذا البلد يكفيك كامرأة أن تكتبي كلمتين لتصبح سمعتك مشاعاً للقذرين ، عموماً يا علياء أنا لن أعيش مرتين ، لذا سأعيش المرة الوحيدة كاملة )ص 211 .
تعرية تمزج التقرير بالإيحاء ؛ لإنشاء خطاب نقيض ينطلق من وعي ضدي يتصدى لخطابات السلطة الأبوية وكشف أساليبها المراوغة في تزييف الوعي وتشويش اليقين بالذات . تتمسك بهذا السلاح وتجعله ضمن أولويات مساوماتها مع الرجل ” الزوج ” فلا رجوع إليه إلا بعد أن يُخلّي بينها والكتابة ( أخبره أني لن أتخلى عن الكتابة ، وأن كوني كاتبة لا يعيبني ) ص89 . ومع كل هذا الكفاح تعود القضية أكبر من مجرد زوج ، بل نظرة مجتمع ( لو كانت رجلاً لكانت كل الخيارات بيدها ، حتى أبسط حاجاتها لابد من رجل فيها ؛ رجل يشتري الجريدة ، رجل ليرسل ما تكتبه للجريدة ، رجل يأذن لها بأن تكتب في الجريدة )ص 101 .
ولأن ” طقوس الكتابة والثقافة وأعرافها ترسخت من قواعد الفحولة ، ولم تجد المرأة بداً من أن تكتب مثلما كتب الرجل : فتسير في خطاه وتستعين بمجازاته ورموزه ” تستخدم الساردة هذا المعول ضده لكسر شوكة استفزازه وامتلائه بالموروث المعرفي الخاطئ نحو الأنثى فتقوم بتهديد الصديق المثقف عندما اندلقت عفونة نظرته نحوها كجسد ومتعة ، تقول ( هل ينوي أن يتداول معي مفردات الجنس ؟!!) ص 144.
فتلجأ إلى سلاحها الوحيد لتردعه ( كنتُ أجاريك قناعة بأن التجربة كلها قد تكون خامة جيدة للكتابة فيما بعد ( أشرتُ لذلك رغبة في تخويفه ) )ص 146 . لم يتوقف بل واصل تكريسه للنظرة البطريركية المبعدة لأنوثتها وذاتها ، وتقطير علاقته بها في مراده منها ، لذا تمارس معه سلاحاً آخر من أسلحة الكتابة لمواجهة سلطته ونظرته الجسدية أن تحوله حروفا مكتوبة وحالة لغوية ، أما هي فتحول ذاتها إلى حالة تخييلية ، حيث تطلب منه أن يلعب معها لعبة تبادل الأدوار ( لعبة يتقمص فيها كل واحد شخصية الآخر ويحكي بلسانه ، يفضحه أمام نفسه والآخرين .ما رأيك أن نلعبها ، أصير أنا أنت وأنت أنا لدقائق فقط )ص 147 . وتأتي النتيجة منتصرة ( لا أدري كيف استحال طفلاً صغيراً وهو يردد : لا أرجوكِ افـعلي أنتِ .. الله يخليك افـعلي ) ص 149 . تحوله من فاعل إلى مفعول به ، لتتركه يحترق لوحده لأن ( هذا الرجل لا يعرف المرأة ، على الأقل لا يعرفني ) ص 149 . لا يتجاوز حده المعرفي إلا نظرته المستقرة منذ دهر عن المرأة …
وفي نهاية اللعبة وتوسلاته لها بأن ” تفجر الموقف ” تفتح له مسرباً سردياً للحديث عنها مؤكداً نظرتها نحوه ( كانت أنقى مما توقعت ، متعبة جداً ، رغم أنه قد سبق لها الزواج إلا أن خبرتها بدت لي ضئيلة ، أحياناً أشك في حديثها عن زواجها حين أرى كم هي جاهلة )ص 154 .
أيقن بأهمية سلاحها ، يقول ( ما كنت واثقاً منه أن ما حصل بيننا سيسرده قلمها في أقرب فرصة ، لذا كنت أتلقف كل ورقة بخط منمنم يلفظها الفاكس فإن لم تكن لها تركتها منتظراً الآتي بلهفة ورعب ، بعد أسبوع بعثت مقالاً بعنوان ” المسكوت عنه ” حكت فيه كيف أن الذَكَرَ تحت عباءة الثقافة قد يستغل الأنثى أسوأ استغلال ) ص 155 .
التفاعل النصي :
ينضَّد السرد بمتفاعلات نصية متنوعة المصادر ومتعددة الإحالات سابقة لزمن السرد : أغانٍ ، وأبيات شعرية ، منقولات لفلاسفة وروائيين عالميين وعرب ، وذكر أسماء بعض شخصياتهم في رواياتهم ، قراءة في كتاب الأبراج …
وهذا التفاعل النصي والاستدعاء للوحدات النصية تتطلبها حالة الساردة المأزومة لتساعدها في مواجهة ذاتها والواقع وتنفيس لرغبات مكبوتة ، وإسقاطات لا تخفى … فكل وحدة نصية تأخذ موقعها المناسب في السياق السردي ، فمثلاً بعد سرد بكائيات مالك بن الريب تقول ( أقترب منها قبل أن تبدأ مهمتها الأهم ، وبتردد أرفع النقاب عن وجهها فيتكشَّفُ عن ملامح كملامحي ! )ص 16 . وقراءة الأبراج ( أتذكر صدمتي لما طالعته أول مرة فاكتشفتُ أنه يعرفني أكثر مما أعرف نفسي )ص 160 . وذكر شخصية ” راسكولينكوف ” في الجريمة والعقاب تكشف عن رغبة في تقمص دوره في تنفيذ مبدئه ” الحق الخاص ” وهكذا .
” روحها الموشومة به ” تجربة روائية أولى للكاتبة إلا أنها تمكنت من أن تستوطن مكاناً لافتاً في التجربة الروائية السعودية عامة والنسوية خاصة .
مجلة المجلة العدد ١٣١٧
تاريخ ٦-٥-٢٠٠٥م
ثم نشرها في موقع القصة العربية