تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » فارس

فارس

إنه الخميس الثالث منذ غاب ، هل يتصل الليلة أم أنه أيضاً لن يفعل ؟ أول خميس مرّ ما تنبهت لفراغ ليلتي من هاتفه المعتاد ، لكني صباح الجمعة ذكرته ففرحت وتمتمت : كذا أريح …ربما يئس مني وما هو بمتصل بعد اليوم …أحسن .
الخميس الثاني تأخرت إطلالته ، وفي ليله ـ رغماً عني ـ وجدتني أنتظر ، متربعة طوال الوقت قربالهاتف وما بي رغبة بمحادثة أيٍ كان ، لكن الليل وانقضى دون أن يتصل …صباح الجمعة تفكرت في أسبوعي الذي سيتطاول حتى الخميس القادم . قلت : أملأه ،ثم نبشت ذاكرتي بحثاً عن أعمال مؤجلة . حتى رواية بائتة ركنتها منذ مدة مفتوحة دون أن أكمل قراءتها عدت أتمها .
أنهيتها مساء الخميس وأيضاً بقيت أنتظر .بعد التاسعة ليلاً صرت متوترة جداً . كيف أطيق ذا كله وحدي ؟! أأتخفف من حمله ؟ أأبوح ؟ فلمن ؟ اعتكفت في غرفتي والهاتف ، ثم استجلبت طيف صديقتي وسردت لها الموضوع . بابتسامة ساخرة قالت : ما يربطكِ بذا الذي تجهلين شكله ..اسمه ، ولا تعرفين حتى صوته ؟!
أجبت بانكسار : ما أدري . ربما العادة ، فالعادة تولّد ألفة ثم …هنا خفضت عينيّ خجلاً منيّ ومن رفيقتي وأنا أهمس : ربما هوته أذني .عادت هي تتعجب : وماذا ضمت أذنك من صوته حتى تهفو إليه ؟! 
هذه المرة قلت بعنادٍ : كفاني منه قبلته الـ…
ـ الغبية . قوليها . كل مرة يكررها بشكل يثير القرف ؛ ستة أشهرٍ كاملة كل خميس بآخر الليل يتصل ويفعلها . يقبلّك ( أقصد يقبّل السماعة ثم يغلقها ) كيف يجب أن ننظر لشخص كهذا ؟
قبل أن أرد ، وجدتها بحزم تقرر: منتهى السخافة .
عندها سكتُّ . ما أملك قولاً أدافع به عن صاحبي ، حتى قصته المثلومة تدينه فوق ما تفيده .
فارقني خيالها وأنا أردد :<< قصته المثلومة ..قصته المثلومة>> الكلمات أنبتت برأسي فكرة . قلت : الليلة أغلق دائرة حكايته المفتوحة . استعرضت صور فتية كثر في بالي . بعضهم ممن شاهدت في التلفاز وأغلبهم رأيتهم على أغلفة المجلات غير أنيّ صرفتهم لأخلق فتاي أنا ؛ هو شاب في الخامسة والعشرين ، طويل ، نحيل ، تشوب بياضه سمرة ، له لمة غزيرة وشارب أرستقراطي خفيف ، يعمل ..مهندساً .. ربما ضابطاً ..لا بل هو طيّار . نعم طيار ، ورحلاته تتواصل الأسبوع كله وإجازته الوحيدة يوم الخميس ( لذا فكل اتصالاته لا تأتي إلا تلك الليلة ) وهو وحيد ،عصامي .. مثقف ، يحفظ الأشعار الحلوة كلها وفوق هذا خجول جداً ،اسمه خالد .. حاتم ..لا إنه فارس .
من صدري طلعت زفرة حارة : أينك يا فارس ؟ أأقلعت في رحلة طويلة ..؟ فمتى تعود؟
فكرة سوداء داهمتني فنفضت فارسي وهو بعدُ طري : لا ..لا يمكن أن تكون قد فعلتها . لست بالخائن ، ثم أنك تحبني .عينه الآسرة ببراءتها أجبرتني أن أطيّب خاطره الذي انكسر حين شككت فيه .لما رضي خبأته تحت وسادتي بانتظار أن يرقد آخر مصباحٍ ببيتنا .
آخر الليل ناديته : لم طالت غيبتك يا..؟ تعرف كم أشتاقك فلمَ تعذبني ؟ فقط لو طمأنتني قبل أن تذهب .أم تراك تعمدت ذلك حتى تتبين مكانتك في داخلي ؟! لا بأس . سجّل إذن أنك عندي .. لكن مهلاً إياك أن تكون قد سئمت أذني المتصامة ولساني الأبكمفاستعضت بأخرى ! هل فعلتها ؟ أجبني .
صمته قهرني .
قبل أن أبكي خيّل إلي أني أسمع هاتفه .آه هاتفه الحبيب لو اتصل هذه المرة قد ..ربما ..لكنه للأسف لن يفعل .عدت أتنهد والهاتف يرن . رنينه يبدو حقيقياً . ليس منبعثـاً من ذاكرتي كما خمنت أول مرة . تراكضت نحوه .أجبت بعد أن سيطرت قليلاً على ارتباكي . دوّت قبلته في أذني ، رفرف بصدري عصفورٌ أبيض . سقسق : مرحباً بالفارس ! حمداً لله على سلامتك !أسكتّه وبلعت كل أسئلتي . صدري يعلو ويهبط .السماعة ترتعش بكفي .الليلة لن أردها في وجهه بسرعة . سأنتـظر ، قد يقول شيئاً، قد يوضح .غير أن صمته امتد حتى كدت أصرخ به : انطق ! أكل ذا منك خجل يا فارس ؟! أنا ما أنتظر اعتذاراً ،فقط أكّد لي أنك ما نسيتني ،وأنك لي وحدي .
أخيراً أتاني صوته : << ممكن آخذ من وقتك دقايق >> انكمشت روحي << ما باله صوته ليس رخيماً كما أعرفه ! أقصد كما تخيلته ..آه الآن فهمت هوكان مريضاً طوال الأسابيع الفائتة . واليوم ــ لما تحسن قليلاً ــ ما عاد يحتمل البعد أكثر فغامر واتصل بصوته المبحوح .
إيه يا فارس تريد دقائق ؟! وقتي كله فِـداك .
حاولت ضبط نبراتي وأنا أقول : من أنت ؟
– فارس حبيبك .. قلها أرجوك .
بعد سكتةٍ قصيرة همس : أنا فهد ، ثم ضحك ضحكة غريبة  .
– فهد ؟ فهد ..اسمه فهد ؟!
كان هو يقول شيئاً وأنا أرد السماعة مكانها . يدي تتحسس الهاتف ،ثم تهبط على كتاب مدرسي بجواره ، وتنزلق بعدها على حافة المكتب ، صوت مكيف الهواء صار يحتل أذني كلها . دقات الساعة تنافسه ، تشير للثانية والنصف صباحاً .عجيب ما أسهرني إلى ذي الساعة ؟!
أخرجت الهاتف من غرفتي ، وأغلقت الباب .عدت لمرقدي أحلف ألا أجيب هاتفاً ليلياً أبداً من تحت الوسادة انسل فارس . مس كتفي برفق .أدرت وجهي للناحية الأخرى بعد أن رفعت سبابتي في وجهه : ولا حتى هاتفك أنت .
 
١٩٩٨م
من مجموعتي القصصية ” وحدي في البيت”

وأعدت نشرها في منتدى شظايا أدبية
http://www.shathaaya.com/vb/showthread.php?t=16086

هل تود معرفة كل جديد ؟
يمكنك معرفة آحدث ما تم نشرة أول بأول , كل ما عليك هوا إضافة بريدك الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *