مع أذان الفجر الأول، صحى عويضة كخرقة رطبة، كل ما يرغب به هو البكاء. بصعوبة منع نفسه، شيء ما أوعز له أنه لو بكى فلن يسكت أبدا.
فتش عما يبرر رغبته الطارئة فلم يجد سببا، استرجع أمسه فوجده مسطحا كصدر صبية نحيلة في الصف الرابع الابتدائي.
تكور ضاربا ساعديه على صدره، ولم تنجح محاولات امرأته في إخراجه للمسجد.
غفا ساعة ثم فز هلعا؛ رأى عزرائيل.. رآه يطل في وجهه.. رآه فعرفه مع أن أحدا لم يخبره من قبل بوصفه.. عزرائيل لا ريب فيه.. وهو قادم ليقبض روحه.
ارتفعت الشمس وعويضة مثل الطحيحي يحدق في خيط الضوء تحت باب حجرته: سأموت اليوم إذن! وأنا الذي كنت أشكك في أن الموتى يبلَّغون.
قرر أن ينتظر الموت ليخطفه من فراشه، قد يطمئن ذلك عياله، سيقولون: مات أبونا في فراشه ميتة هينة لينة.
مع آذان الظهر تذكر مهمة أخيرة يجب أن يتمها، فخرج ليقتل ابن عمه (مهدي)
مهدي رفيق طفولته وشريك مغامرات الشباب وعكاز عويضة مذ اكتنزت أكياس أدوية الاثنين، لكنه لا يشبهه بتاتا، حتى أنه لم يكن يهاب الموت، ولا يحترم حضرته.. يدخل مهدي مجالس العزاء متدرعا بالضحك، يختار المقعد المقابل تماما للموت ويثخنه بابتساماته، وللمتجهمين يروي حكايات تذيب استغفارهم وحوقلاتهم، فإذا نهره عويضة سكت للحظات ثم عاد لطبعه.
في آخر عزاء حاول عويضة قمعه فنظر مهدي نحوه طويلا ثم تركزت نظرته على ناجد عويضة الذهبي، وبعلو صوته تعهد ألا يموت قبل عويضة حتى لا يوضع في لحده قبل أن ينزع عنه الذهب.
ضحك المجلس وشحب عويضة فأكمل مهدي مشاكسا: تقابل ربك به؟! والله لأقلعنه ولو بيدي!
⁃ سأقابل ربي بذنوب كثيرة وهو الغفور الرحيم.. لكني لن أقابله أثرما!
⁃ اطمئن فقبحك لن يزداد إلا قليلا..
يتذكر عويضة أن مهدي في مزحته السمجة صمت لحظة بعد كلمة يزداد وكأن تصريحه انتهى، ثم تلفت في الوجوه المنتظرة وأكمل( إلا قليلا) لتلطخ الضحكات روح عويضة.
قضي الأمر، لم يدع له مهدي خيارا، سيكسر ساقه الأخرى حتى لا يستطيع الاقتراب من نعشه، أو سيهدم أسنانه كلها، ليذهبا لآخرتهما متعادلين.
المسافة بين بيتي ابن العم ثلاثة بيوت فقط، انقضت وشيطان عويضة يأكل أذنه بنمائم تفتت الكبد.
أقبل على بيت ابن العم فسمع صرخة، تبعتها أخرى، بعد لحظة خرج أحد الأولاد جريا، ارتطم بعويضة، ثم بملامح مبعثرة همس: أبي مات!
وتعانقا يبكيان.
٢ مايو ٢٠٢٢
