صباح يومٍ خريفي ودعنا إنديانابوليس متجهاتٍ لناشفيل.
خمس سيدات في سيارة، أنا على الباب الأيمن خلف ريتشل. باتريشيا تقود السيارة.
أشجار الطريق تتخاطف الألوان الدافئة، تضخها بإصرار في تيجاتها، تدّعي صحةًسيعصف بها الشتاء القادم.
حاولت أخذ صورٍ للمزارع الفارة من الدرب، من أشباحه تقنص عدستي جداول وخيوللتحنطها. ويرتطم رأسي بظهر المقعد أمامي بين لقطة وأخرى؛ فباتريشيا تستخدمالمكابح بدل علامات الترقيم في كل جملة تتفوه بها.
بعناية أنتقي لقطات أبعثها لنصف الكرة الأرضية البعيد. قد تقنع أهلي بأني في الجنة.
قبل شهر جاءني رد الناشر الثالث يرفض رواية ظللت أنحتها ست سنوات. بعد أنتورمت أجفاني فكرت بحرق الورق ومسح أي أثر له في حاسوبي، وكي لا أُعدم عشرينشخصية جززت شعري، الخفة الطارئة يومها جعلتني أطفو فوق بركتي الكثيفة قليلا.
تجاهلت ألم كتفي وعدت أكتب، في أسبوعين أنهيت تسع قصص قصيرة مصير أبطالهاموت محقق، يفاجئني في قصة ويتنبأ به البطل في أخرى ويصارعه ثالث منذ الفاصلةالأولى، لكن أحدا لا ينجو.
بعد درس الزومبا عرضت علي كارين هذه الرحلة، وأنا أبدل حذائي انحنت علي بجسدعائد من معركة سرطان لم أجرؤ على سؤالها أي جزء من جسدها قضم. هربا منشعري الذي لا يمكن تصفيفه ولا قصه أكثر وافقت.
في السيارة توقعت أن تبدأ سنثيا بإفشاء أخفى أسرار معارفها، لكن المرأة التي تكدسالنفايات في بيتها وصدرها حكت عن جارتها التي نقلت الشرطة أمس جثتها المتفسخة: اشتكى عدد منّا من الرائحة فطلبنا التدخل.
تحاورت السيدات حول متوفاة اتضح أن لا أحد في المحيط يعرفها.
– لم تكن اجتماعية.
– لا أذكر أني رأيت أحداً يزورها.
– لم أرها أكثر من مرتين خلال ثلاثة أعوام.
– ربما تكونين لمحتها وهي تأخذ بريدها.. هي لا تخرج لغيره، وليس لديها كلبتنزهه.
انسحبتُ من نقاشهن أقلّب جسدا هلاميا نتناً لعجوز قوقازية منبوذة وتقتلني الرائحة.
سألتني باتريشيا عن طقوسنا في التعامل مع الموت، كان منطقيا أن يأتي السؤال منهاوهي المبشّرة التي جالت بلادا على الخريطة بعدد شعر رأسها.
دسست خيالاً موجعاً تحت بساط الذكريات وبلغة متقشفة أخبرتهن كيف نغسل الميت،ونجلل جرمه بالبياض ونطيبه، نعيده لرحم الأرض التي جاءت منها مضغة البشريةالأولى.
كارين – التي لا تقل عن باتريشيا تعصبا للمخلّص كرهت التطرق لطقوس دين آخر – بترت كلامي لتحسب تكلفة حرق الجثة مقارنة بخسائر تخزينها بانتظار قريب يدفع ثمنإقامتها الباردة ويقرر مصيرها؟
حكايات الموت تتدفق على الألسن فتذكرني بحلم قديم، تحت لحافي أحسست بالجثةاليابسة غامقة اللون التي تشاركني الفراش. قالت معالجتي حين حكيت لها كابوسي: هل فكرت في الانتحار يوماً؟
بضحكة مجلجلة بترت ريتشل حبل خواطري ورتل الجثث التي تكدسها ألسن النسوةحكاية بعد أخرى في السيارة: سيداتي! حان الوقت لإغلاق كتاب البؤس هذا فهي رحلةغرضها أن نستمتع، أتتذكرن؟! ثم أننا وصلنا.. أرى مصنع الشوكلاته الذي حدثتكنعنه هناك.
هبطت قبل الجميع تتولى محاسبة عامل المواقف فيما باتريشيا تركن السيارة، منموقعها رأيتها تلف وشاحا مشجرا حول عنقها تتجه شرقاً. سنثيا بأظافرها الطويلةهرشت مؤخرة رأسها وتبعتها. انشطر الفريق وكارين تقود باتريشيا لمحل أنتيك فيالاتجاه المعاكس.
تاهت خطوتي بين وقع خطوات ريتشل العجلى، وصوت كارين الممتعض : قد يغلق باكراويضيع مشواري سدى.
في الزقاق الضيق بين المحل وجنب مقهى صغير رأيت مسناً يتكوم على مقعد خشبي،يحشر شحمه في قميص سماوي ويمنع اندلاق أحشائه بحزام عريض.
يلهث في الظل وشاربه الرمادي يغطي شفته العليا ونصف السفلى. نظرته تطفو بين عتبة المحل وقلبه الداكن، حتى باتريشيا المصابة بفرط حركة لم تفلح في خدش شروده.
تبعتها وهي تتقافز بين قطعة وأخرى ولم أشغل نفسي بفهم جملها المندهشة المبتورة.
كارين بخبرة حقيقية أو مدعاة تخطت باشمئزاز كثيرا من القطع لتتصنم أمام خاتم تفحصه بتمهل.
فوق باب المحل رُصّت خمس لوحات زيتية صغيرة الحجم لبيوت وأشجار ومرجيحة أطفال.
نيابة عن كارين أخرجت رأسي من الباب أبحث عن صاحب المحل، تحديقي في الرجللم يترك له خيارا، ضرب براحتيه فخذيه وزفر ثم نهض ليدخل.
حيانا وأرضية المحل تئن تحت خطواته الثقيلة، أخفا ثلثي كتلته وراء الطاولة وعادتالمرأتان تفحصان المقتنيات، لاحظ أني لازلت أنظر إليه فأشار للوحات الخمس: رسمتهاأمي.. كانت تحلم بمستقبل في الفن، ثم ( أفرج عن شبه ابتسامة ) تزوجت أبي..
لم أعرف كيف أطري فن الأم الموءود، ابتسمت وظللت أحدق في إطار أول اللوحات.
على يمين طاولة العرض صورة هولوغرامية لوجه رجل أربعيني مكتنز. دنوت منهافانتبهت باتريشيا للشبه بينه وبين الصورة : أهذا أنت؟
هز رأسه موزعا نظراته بيني وبينها: أجل.. تلك صورتي.
ردت نظارتها عن أرنبة أنفها: أهي قديمة؟ تبدو فيها أصغر!
صعقني رده: أبدو أصغر؟ كنت أصغر يوم أمس!
هتفت باتريشيا محرجة: dear lord . ثم انسحبت من المحل.
قلّب الرجل راحتيه ليعتذر لظلالها ولي: إنني مرهق قليلا، فقد عدت للتو من جنازةصديق.
لحظتها فهمت من أين له هذا الوعي الحاد بالزمن، فالموت يقبض روحاً ويهب الناجين نفحة فلسفة لأيام معدودة.
نفد صبر كارين، وسألته – وهي تنقر بسبابتها الزجاج – عن قطعتها.
اجتاحتني لحظة المساومة خطفة الحنين؛ تلك التي تسلخني فجأة عن المحيط فتسلبني اللغة وتجعل أنفاسي ثقيلة. خرجت من المحل فلمحت ريتشل عند باب قريب. أنضجالجهد وجهها فبدت لطخة الآيس كريم البيضاء في حمرته أوضح.
خافضة رأسي اندسست في موج المارة، تبعت خطوات عجوز أمامي، في عطفة الشارعانتبهت لقميصه المطبوعة عليه كلمة lottery وكيس ورقي متغضن لا يعد بأي نصيب.
انحرفت لعطفة الشارع التالية، فلمحت دراجة طفل. حاذيت السور القصير وأنا أعدكاميرتي. الدراجة التي كانت بلا شك لطفل صغير طليت على استعجال بالأبيض، كان مقودها منبعجاً ربما بسبب حادث، وكانت عجلتها الأمامية مثبتة بسلسلة في السور. على عجلتها الخلفية أُسندت دمية على شكل أرنب مطاطئ الرأس ويعلوه السخام.
على مقعد الراكب لوحة خشبية صغيرة : لأجل المرحوم لوكاس .. ارتد الخوذة كلما خرجت للشارع.
http://aljsad.org/showthread.php?t=3736107
https://www.al-akhbar.com/node/280962
http://aljsad.org/showthread.php?p=1116096650#post1116096650
لأول مرة أقرأ لك مع أني سمعت عنك منذ وقت طويل فكما تعلمين أن المختلفات في مجتمعنا قلة و في مجتمعي الصغير )السليل( هن ندرة . قصة رائعة و طريقة سرد دقيقة التفاصيل … كنت اتمنى لو أني قرأت أحد رواياتك و لكن للأسف ربما لم يحن الوقت بعد .. لا زلت اتمنى أن أتعرف إليك عن كثب و كيف أستطعتي إبراز نفسك في مجتمع يهمش كل صاحب قلم معتدل و مثقف و لكن الفرص في ذلك قليلة .. شكراً لقلمك و اتمنى لك المزيد من التألق
???
الكتابة يا عزيزتي صعبة أيا كان موقع الكاتب أو جنسه
وهي لا تستشير من تصطفيهم لنفسها ولا تنظر في ظروفهم أولا
لكننا نعشقها بتعبها مرات وبتمنعها أحيانا
ممتنة لتعليقك اللطيف ولعل قادم الأيام يسمح بأن تعرفي عني ومني أكثر