دفتر صغير بحجم الكف، أغوى السيدة نون فاشترته. لاحقا، لامت غفلتها عن تحذيرات توالت بألا تفعل ولم تفطن لها: مع دخولها فوهة المحل المغبشة انخفضت عتبته بشكل مبالغ فيه، فهوت خطوتها لتشعر بصعقة ألم أسفل عمودها الفقري (هذي كانت الأولى)
لمست مجسما جبسيا لقط فانكسر ظفرها.شقت نون دربها في غابة الأزياء التنكرية لوجوه شخصيات سينمائية مرعبة، ( وذي الثانية)
تجاوزت الأقنعة والأطراف الصناعية المدماة، ووقفت حيث شاء الدفتر. حط في يدها، ليسحرها بغلافه الجلدي الأخضر اللدن، ونقش زهرة اللافندر المحفور كتوقيع سري في الزاوية السفلى للغلاف، ثم بأوراقه كريمية اللون غير المسطرة. لم يكن لديها ما يلح للانكتاب، والبائعة حاولت صرفها عنه: ألا تريدين بدلا عنه شيئا لتزيين الحديقة أو واجهة البيت للهالوين؟
كعادة نون في عدم الإجابة على قدر السؤال سعت لخلق حديث أطول: ماذا يمكن أن أشتري؟ بيتي في الشطر المقابل من العالم، ولا نحتفل هناك بالهالوين. البائعة لسبب عنصري أو دونه لم تسأل نون عن بلدها، بيتها، أو احتفالاتها.
بصرامة وصمت غلّفت دفتر اللافندر الأخضر بورق مطبوع عليه بتبذير غير مبرر قرع مستدير بأوجه ضاحكة بفجاجة ثم مدت نون به.
لم تستسلم نون؛ وضعت إصبعها على أكبر حبة قرع على الغلاف: أتعرفين أن القرع في بلادي مختلف شكلا ولونا بل حتى الطعم؟
ابتسمت البائعة ابتسامة مجاملة ثم استدارت ترتب موجودات أحد الأرفف.
رفعت نون الدفتر وابتسامة: سأكتب في هذا الدفتر عن رحلتي هذه، وسأبدأ بهذا المحل.
غير مؤكد حتى الآن إن فهمت البائعة الجملة تهديدا، أم أن حس دعابتها السمج استيقظ فجأة؛ التفتت لنون وقد لبست قناع شبح الأوبرا وبصوت مبحوح فحّت: انتبهي فأول سطر ستخطينه في الدفتر سيقرر كل ما تكتبينه لاحقا.
تقلصت عضلات وجه نون وأمعائها، وخرجت وقد تلطخ قلبها بالنبوءة. سارت خطوات في الدرب الحجري وحين تشعّب قررت الصعود أكثر.
على يمينها محل أنتيك حياها بائعه بإشارة بذقنه: ألا ترغب الآنسة بنظرة لقلب العدم؟
صدمتها عبارته التسويقية الطاردة. خفض رأسه مرة أخرى يرد الأحشاء المندلقة لساعة حائط قديمة مكانها ويثبت تروسها.
حدقت في الواجهة المقابلة؛ محل شاي أعشاب. خلف زجاجه الرقيق سيدة بمعطف طبي أبيض ( للإيحاء بالآثار الصحية) وتحت المعطف تنورة قصيرة وجوارب مطبوع عليها الوجه الصارخ للوحة مونك.
تجاوزت نون المحلين بسرعة لتقف أمام محل لم تميز نشاطه لا من واجهته الخاوية ولا من لوحته التي لم تزد عن نقش صغير كحرف من أبجدية لا تعرفها.
ردهة المحل مبلطة بالأبيض والأسود كرقعة شطرنج، فيها مقعدان أحدهما كرسي استرخاء قماشي أصفر مع مسند للأقدام، والثاني مقعد سيارة أسود تحته هيكل معدني وله مسندان لليدين. أمام المقعدين تربض طاولة خشبية على هيئة عربة ريفية، وعلى الجدار المقابل صورة رجل بملامح ذاهلة وشعر أشيب كثيف.
لم يكن في المحل بائع ولا مشترين ولم تلمح بطاقات سعر على الجاكيتات الثلاثة المعلقة على الحامل الحديدي الصغير تحت صورة الرجل.
أخرجت من حقيبتها قلما، ومزقت القرع الضاحك عن الدفتر. فجأة وضع شاب نحيل كوب قهوة أمامها على الطاولة مبتسما. قبل أن تسأله من أين خرج؟ سمعت من خارج المحل رنينا حادا، حدست أنه لمنبه الساعة التي كان بائع الأنتيكات يصلحها. التفتت لا إراديا للصوت فاختفى الشاب.
أزعجها كل هذا العبث فقررت تكذيب تكهن بائعة الدفتر، ستسخر منها بكتابة أمور تافهة عديدة ولا رابط بينها.
ترددت كثيرا قبل أن تخط كلمة، وكلما عرضت مفردة على نفسها تبخرت. بسبابتها تحسست نقش اللافندر المحفور، تذكرت الرائحة العطرية التي انبعثت منه في المحل، رفعته مغمضة العينين لأنفها فلم تجد له رائحة. عاندت حواسها وفي منتصف الصفحة الأولى كتبت كلمة رائحة. خفق قلبها بقوة وهي تنظر للكلمة المكتوبة، تشاءمت، رفعت كوب القهوة غمست أرنبة أنفها فيه تنشقه. لم يكن للقهوة رائحة أيضا. شمت القلم، عطرها الذي اشترته راضية أمس، حقيبتها. لا شيء.. كل ما تلمسه تنزع منه الرائحة. استحوذ عليها هاجس التكملة الوحيدة المناسبة للعنوان المشؤوم. نظرت ليديها، قربتها من أنفها، شمتها وخرت على خدها دمعة. أعادتها على الطاولة مضمومة، بلعت ريقها، ثم فردت الكفين، نظرت لطلاء أظافرها، للظفر المكسور، لعروق كفها، للحرق القديم على مفصل الإبهام. كلما أدامت نون النظر ازداد شعورها بالانفصال والنفور عن هاتين اليدين.
عادت تشم يديها، لها رائحة بلا شك، لكنها لا تستطيع وصفها: نتنة؟ لا! عطنة؟ لا! عفنة؟ زنخة؟ لا لا، لكنها موجودة، وحقيقية ولا تفسير لها مع غياب كل الروائح الأخرى. مصابة بالكمد خطت نون في الدفتر“المرأة التي تكره رائحة يديها” أغلقته فظهر الشاب النحيل فجأة. ابتسم وحمل كوب القهوة الذي لم تشرب منه غير رشفة، ورفض بإيماءة لطيفة أن يأخذ حسابه واختفى.
خرجت للدرب الذي انحنى مرة أخرى كحدبة، نزلته تسير ويضيق، ظل المحلات ينطبق عليه، وأناسها اختفوا.
تسير وتشم يديها: مرات تكون لليدين رائحة جبنة ماعز، وأحيانا تشبه رائحة دجاجة مبردة، وفي إحدى الشمات بدت كرائحة نمل أبيض.
قعدت تحت شجرة، يداها سمكتان أخرجتا من الماء ولم تلفظا أنفاسهما بعد ..
شعرت بالدفتر يزداد ثقلا في الحقيبة. أخرجته، انتزعت الصفحة، ورمتها في سلة نفايات وابتعدت. هبت ريح خفيفة فثارت رائحة اليدين فضيحة مدوية في مدينة الغرباء.
كتبت القصة بتاريخ ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٢ وعدت لتعديلها قليلا بتاريخ ٧ أغسطس ٢٠٢٣
