دون طول انتظار وافق البيت ذي الطراز الفيكتوري على استضافتي .
أتممت شهرين بين أثاثه الخشبي، سجاده الإيراني، ستائره الطويلة، ولوحاته العديدة.
بعكس الفنادق وغرفها منزوعة الرائحة، تهبني البيوت أناسها وحكاياتهم.
هذا البيت فتح بابه قليلا قبل سنتين، وخلالها ظل يستقبل ضيفة أو ضيفتين كل بضعة أشهر: أولا لأن كل جديد في الخدمة مرهوب، وثانيا لماذا سيقصد السياح مدينة خاملة من مدن الغرب الأوسط الأمريكي؟!
أما أنا فقصدته لسببين: بحثا عن معتزل هادئ للقراءة والكتابة، ولأن لي في هذه المدينة ذكريات أردت مسحها بما هو أجمل.
خلال إقامتي، قابلت إحدى عشرة سيدة بين مقيمات وصديقات لصاحبة البيت، أما أكبر عدد اجتمع على طاولة الفطور فكان ثلاث ضيفات.
هن “ضيفات” دائما فقد أوضحت ربة البيت في إعلانها أنها لا تستقبل غير النساء.
لا أراها كثيرا، ومع ساعات دوامها المضنية من الخامسة صباحا حتى السادسة مساء لا أظنها تملك وقتا تقابل فيه نفسها.
في أيام إقامتي الأولى عاملتني هرتها السمينة كدخيلة، فرسمت لي حدود حركة ضيقة.
كانت أجاثاكريستي أسوأ من حمامة زوسكند، تثب أمامي لتسد دربي وتهرّ بوعيد مقلق. لا مجال لطردها ولا لتغيير البيت.
في الأسبوع الثاني، تفاهمنا على البقاء معا تحت سقف واحد.. وغدا روتيننا أنا والرمادية المخططة ثابت، قبل السادسة صباحا تعسكر أمام حجرتي، أخرج فتمسح بذيلها ساقيّ معلنة أني ليوم إضافي في قائمة ممتلكاتها، ثم تسبقني للمطبخ. أخاتلها فأضع فطورها وأبعد يدي بسرعة قبل أن تلعقها، ثم أضع فطوري، فإن لم أخرج قضينا الثلاث ساعات التالية في غرفة المعيشة أقرأ وهي على كنبة مقابلة وعينها عليّ.
المقعد الهزاز الصغير في ركن الغرفة صار مقعدي للقراءة. عليه يكون ظهري لنافذة تطل على الشارع ووجهي للوحة فيها رجل أزهر بسالفين أسودين عريضين وقبعة عالية.
ذات يوم، زارتنا إحدى الجارات ضحى. بعد تحية قصيرة وتنبيه من الطقس المتقلب أشارت للوحة مبتسمة: man of the house
ثم شرحت كيف ومن أي مزاد اشترتها ديبرا بعد وفاة زوجها، وكم قضت من وقت حتى استقرت على تعليقها في صدر البيت.
- سأقول ذلك بصراحة، ديبرا تعلقت بشكل غريب بالرجل حتى خشيت أن تعطيه اسما.
أملت رأسي وأنا أتأمل جفنيه المبطنين وأسأل: هل فيه شبه من زوجها؟
– إطلاقا. قالتها بهزة رأس وابتسامة، ثم لاعبت أجاثا للحظات وخرجت.
لم أطع تحذير الجارة، وذهبت لمتحف الفنون.
عدت بعد الظهر مبلولة، صيدي من الصور هزيل، جوالي مات قبل تخليد المجسمات المعروضة في حديقة المتحف، وعقبي الأيسر مجروح من حذاء ضيق.
أمام باب البيت وجدت ضيفة جديدة. سلّمت عليّ بحفاوة جنوبية خالطة بيني وبين ديبرا، ثم انتبهت للكنتي الأجنبية فندمت على حفاوتها وبلعت باقيها.
شحنت جوالي، فوصلت رسالة مرسلة من ساعة: اليوم سيدة اسمها مارجي ستحل ضيفة علينا. سأحاول الرجوع باكرا، إن لم أستطع.. هل أثقل عليك إن طلبت أن تساعديها في وضع حاجاتها في الغرفة الخضراء؟ تبدو مسنة جدا جاءت لتعود شقيقها (الفرد الأخير في أسرتها) في دار رعاية هنا..
قبل أن أطلع على رسالة ديبرا كنت قد حملت حقائب العجوز عنها، وتركتها تأخذ حماما.
وأنا أعد وجبة خفيفة، خرجت مارجي من دورة المياه. روبها الأخضر الفاتح يستر عظامها، ومنشفتها البرتقالية مزوية على رأسها. سارت نحو غرفتها منحنية كحبة كوسة قطفت للتو.
دار القفل في بابها دورتين، وخطرت ببالي فكرة: نشكو في جهة العالم المقابلة من الأسر الممتدة وتكلفة الانتماء الباهضة لها، لكننا لا نقلق من أن ننقرض.
صباح اليوم التالي وجدت مارجي قبلي في المطبخ .
قلت بيضتين، سخنت شريحتي لحم مقدد، شغلت التلفاز على إحدى قنوات فوكس، أدارت له ظهرها وهي تأكل بصمت.
أعددتُ طبق الشوفان بالزبادي وشاي الأعشاب، وقعدت معها.
سألتها عن صحة شقيقها، فرفعت عينيها متفاجئة بوجودي.
أجرت حسابات قصيرة في رأسها من قبيل: كم يجب أن أفصح لأجنبية عن حياتي؟
تركتها لتفكر وأنا أجلب لها كوب قهوة لم تطلبه، تنهدت وهي تشكرني.
– لم أعد أنتظر أن أجده أحسن من الحال الذي تركته عليها، لكني لم أحسب أنه سيفقد عقله تماما.. لم يبدُ حتى أنه عرفني. قبّلته وظل ينظر لي ثم قال: ” لقد مت ليلة البارحة”
– تبدو لي حيّا يا ستيفي.
كررت ردها أمامي بنبرة مسطحة فشهقت؛ بدا حوارهما جديرًا بمشهد أول في فيلم.. كتبته في ملاحظات جوالي وهي تكمل: حدثني عن جيرانه في الجنة، وأنا التي جئت أسأله عما يريد أن أفعل بجثته بعد موته؟
وضعت جوالي وسألتها: هل تفكرون بحرق جثته؟
-ليس معي مال يكفي لأدفنه.. وقد بدد ما معه في مزرعة حيوانات بائسة امتصت نقوده وعافيته..
مساء اليوم ذاته حملت مارجي طقم حقائبها الجلدية، لهجة تكساس، وسؤال من سيدفنها هي حين تموت؟ وراحت.
في الليل شكرتني ديبرا على الوقت الذي قضيته مع ضيفتها. مع كل خطوة لها على الدرج كانت تظهر امتنانها.
تنحسر لغتي أمام كلماتها فيتردد بدماغي قسريا نطق مارجي للفعل المنفي ” can’t “ الذي لم أسمعه مكسورًا بهذه الحدة من قبل.
في الليلة التالية، أخرت ديبرا موعد نومها ساعة لأجلي، عرضتْ أن نشاهد فيلما فرنسيا قديما معا، ولم أشأ رد بادرتها.
فيلم دراما، حواراته قصيرة سريعة متداخلة كطلقات حرب شوارع.
يتتابع قطيع كلمات الترجمة الإنجليزية على الشاشة، وأنا ألهث لأقبض على الكلمة والكلمتين فيه، وأختلس نظرات لديبرا كي أقلد تفاعل وجهها مع العبارات الأهم مدعية الفهم.
استأذنت هي وعقدة الفيلم تنحل، قبل أن ينطفئ نور حجرتها غفوت في مكاني لتوقظني موسيقى الختام.
بعد ثلاثة أيام خالية من الناس، عدت متأخرة من المكتبة فوجدت ملاحظة منها تحت قطعة مغلفة من كيكة اليقطين: استأذنت من عملي باكرا لأنظف البيت، بعد التنظيف تذكرت وصفة أمي هذه فأعددتها.. أتمنى أن تعجبك.. غدا ستأتي لايلا.. سأترك لها مفتاحا في المطبخ.. أرجو أن تسلميها إياها، ستستقر في الحجرة المجاورة لحجرتك، وستشاركك دورة المياه.. آمل ألا يزعجك ذلك.. هي معالجة نفسية أتت لمؤتمر طبي وستقضي أغلب الوقت وسط المدينة.
ليلى شابة مليحة، لها غمازة محفورة بعناية في خدها الأيسر.
أربعة أيام في مؤتمر مكتظ بالمتحدثين لن تفقدها حيويتها وطلاقة لسانها.
أول ليلة، حدثتني عن المؤتمر، ومن حظيت بالسلام عليه من البارزين في المجال، والنقاشات التي شاركت فيها.
ثاني ليلة، سألتها عما سقط من سلة الأمراض النفسية مؤخرا وما أضافته لها تعقيدات حياتنا المعاصرة؟
في الليلة الثالثة، طلبت منها وصفة لعلاج الكوابيس التي تجلب ما طمرته السنين في أعماقنا؟
آخر ليلة، ونحن نصعد السلم لمراقدنا سألتها: أيصعب عليك أحيانًا الاحتفاظ برأيك في مرضاك أو تقديم حلول سريعة لمشاكلهم؟
-ألا تحاولون الأمر نفسه في الكتابة؟
تبسمت: نحاول.
ذهبت وبقيت أقرأ قليلا، وأكتب أقل، وأستنطق بيت ديبرا.
رغم قلة فرص مقابلتها، بدا ميلها للشرب مفضوحا.
الواين الذي تشربه خلسة قبل أن تغادر لقداس الأحد الصباحي، الفودكا التي تختم بها لياليها، اختراع مناسبات طارئة للاحتفال متى مرت بالبيت صديقة.
تحاول إخفاء الآثار وتشي بها بقع الشراب على مفارش طاولتها، عيونها المخضلة دائما، ومشاعرها التي تنفجر دون مقدمات .
قبل عودتي للسعودية بليلتين، أعلنت أنها ستخصص اليوم الأخير بطوله لي إن أذنت.
زرنا أولا محل أنتيك تفضله، تغدينا في مطعم يوناني، ثم تجولنا بالسيارة في ضاحية أنيقة جدا.
في الثامنة مساء، عدنا لنسهر في حديقتها الخلفية، واستأذنتني في كأس تيكيلا.
أخذتني أحاديثها لمدن تود زيارتها، ثم رفعت رأسها ومالت كلها نحوي: من يدري قد أزورها، وقد أتفرغ مثلك للكتابة..
ضغطت الكأس على خدها وشرد ذهنها بضع دقائق ثم عادت لي مبتسمة: قد أكتب حكايتي كاملة.
مذ عدت، حاولت مرارا مراسلة ديبرا.
ماذا أقول لها؟! شهران مدفوعة القيمة في بيتها لا تجعلني صديقة مهما اقتربت.
والآن كيف ننهي هذه القصة؟
هل نقتل ديبرا بتليف الكبد؟ أم بعشرين حبة منوم في كأس شراب؟
لماذا نقتلها؟
لأنني قررت ذلك..
فقط، لا تتملص من دورك في الجريمة، كنت حاضرا من البداية، خلقنا ديبرا معا.
أنت كسوتها لحما، رسمت عينيها، وأعطيتها مشية ثقيلة.
حتى القطة، لا تكذب فتدعي أنها لم تنظر في عينيك مباشرة.
أدمنت مثلي التحكم بالمصائر الصغيرة فتشجع.. كيف سنميتهما؟
31 أكتوبر 2019
https://www.google.com/amp/s/sadazakera.wordpress.com/2021/03/28/%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AC%25D8%25B1%25D9%258A%25D9%2585%25D8%25A9-%25D8%25A7%25D9%2584%25D9%2583%25D8%25A7%25D9%2585%25D9%2584%25D8%25A9-%25D9%2582%25D8%25B5%25D8%25A9-%25D8%25A3%25D9%2585%25D9%2584-%25D8%25A7%25D9%2584%25D9%2581%25D8%25A7%25D8%25B1%25D8%25A7%25D9%2586/amp/
قصة تجمع بين الحزن والفرح والكآبة والهدوء والصراع وشخصيات باهتمامات مختلفة في مكان واحد!
لن نحتاج لقتل ديبرا فمجرد أن تبدأ حكاية جديدة تصبح ديبرا وبيتها شيء من الماضي.
شكرا أمل تمتعت هنا جدا
لا أعرف لماذا ختمت القصة بقتل ديبرا؟! وحين أعدت القراءة اليوم لتحرير أخطاء مطبعية نبهني لها صديق ملت لقناعة بإن الكاتب بطريقة أو بأخرى يقتل أبطاله حين ينهي قصصهم
أليس كذلك؟
ممتنة لتعليقك جدا
جدا