الساعة الواحدة ظهراً.مكيف الشاحنة الهرمة فعلها ثانية وتعطل . الطريق يتلوى أمامي كأفعى .لقد استقام الآن لتتوسطه بقعة ماء سرابية . تأملتها فأحسست بجفاف في حلقي . تناولت قنينة الماء وجرعت باقيها .
عدّلت المرآة وتطلعت لرسمي فيها :ذقني نامٍ ،عيناي حمراوان ،تحيط بهما هالتان سوداوان .
للحظة خامرني إحساس بأن هذا الوجه غريب عليّ .سرت رعدة في أوصالي فأعدت المرآة لوضعها السابق .ماإن لمست درج الشاحنة الصغير حتى فغر فاه ملقياً بما فيه من أشرطة على المقعد المجاور وتحته .جـمّـعتها وأعدتها مكانها ثم تناولت آخرها وألقمته آلة التسجيل فإذا بعبد الحليم يصرخ :<> فال الله ولا فاله لم يبق علي إلا هذه ؛أمطار وطرق مسدودة .. صحيح أني أفكر بترك هذه المهنة لكن ليس اليوم ولا بهذه الطريقة ، ثم أني لم أجمع بعد المال الكافي لــ…لماذا ؟
ياترى فيم سأعمل بعد مفارقة هذه الشاحنة ؟
اعتدلت في جلستي وقلت : إذا منّ الله علي بذلك باكراً فسأشتري سيارة رياضية كتلك الحمراء التي تجاوزتني قبل قليل لكني لن أقودها بنفسي ؛ سأستقدم لها سائقاً وسأمنحه أجراً مناسباً ولن أرهقه بكثرة تنقلاتي ، وإذا تعطل مكيف السيارة فسأصلحه له بسرعة حتى لا تصهده حرارة الشمس .أما إذا حدث ما أتوقعه وظللت وشاحنتي التي تضاهيني عمراً إلى أرذل العمر فلا بد أني سأنفق ما سأجمعه على الأطباء وسيكون لديهم الكثير من الأجزاء المعطوبة ليحاولوا إصلاحها .
محظوظ هو الطبيب الذي ستحملني الأقدار إليه ،أعتقد أن متابعته لحالتي ستكون أنفع له من مراجعة عدة قواميسٍ طبية ، وستكسبه خبرة لابأس بها ،لذلك فسأطالبه بتخفيض ماسيتقاضاه مني نظير هذه الخدمة .
بطرف غترتي مسحتُ قطرات العرق التي سالت على صدري ، ثم شـغّـلت الراديو فانساب صوت المذيعة التي بدا لي منه أنها استيقظت في ساعة متأخرة هذا الصباح ،وأفطرت جيداً قبل أن تدخل الاستديو المكيف .قالت بنبرة منغمة :الإجازات موسم الأفراح ولكل المتزوجين حديثاً أو المقبلين على الزواج نقول : ألف مبروك ! ونقدم هذه الأغنية .بعدها غنى محمد عبده <>
هذه الأغنية ماكانت تحرك فيّ ساكناً ،لكني اليوم وجدت لها وقعاً جديداً في نفسي .انتشيت بها ؛تخيلت نفسي العريس المحتفى به .جعلت مقود الشاحنة إطاراً لصورة تخـلّـد ذكرى هذه اللحظة .وقفت في وسط الصورة نظيفاً متعطراً مرتدياً ثوباً أبيضاً بياقة عالية ،وشماغاً زاهياً ومكوياً جيداً .
أردت أن أضيف العروس للصورة فبللت شفتي المتشققة بطرف لساني ، ثم تحسست صور <> و<> و<> الملصقة على زجاج الشاحنة الأمامي ثم غمزت لهن قائلاً : ستكون زوجتي أجمل منكن جميعاً .
فجأة وقبل أن أشرع في تشكيل جسدها انتصبت بجواري فتاة سمراء قصيرة (ابنة جيراننا هيا) قارنت بينها وبينهن فلمحت نظرة ساخرة في عين باسكال ؛ لذا رفعت لها كتفي معتذراً : لا تلوميني ،إنه الحب !!
في خلفية الصورة انطبع شكل منزل أبيض كبير تغطي أسواره خضرة ساحرة .لما اكتملت أجزاء الصورة تنفست بعمق ورددت الأغنية مع محمد عبده بحماس أكبر ، وراحت عيناي تحدقان بضراوة في السيارات المارة تحتي بحثاً عن عروس .
عدت فاستحضرت الصورة من جديد ، ثم قلت : اعذريني يا هيا أنت بعيدة ،وأنا مستعجل . بعدها أطفأت الراديو بعنف :هذه الأغنية اللعينة إن تابعتها لمدة أطول فسأوقف الشاحنة في وسط الطريق لأجلب العروس .
اللوحة الزرقاء التي فـرّتْ قبل أن أكمل قراءتها تشير إلى أن المسافـة الباقية حوالي المائة كيلو متر .زدت السرعة فشعرت بألم في كاحلي .يجب ألاّ أفكر فيه طويلاً لأني كلما استسلمت له أخذ يسري في ساقيّ مهيضاً عروق الدوالي ،باعثاً لآلام الروماتيزم في ركبتيّ ،ممتداً إلى وركي وظهري ورقبتي حتى أطراف أصابعي ، لذا تجاهلته وتذكرت كلمات سمعتها في برنامج <> أمس ،حيث قال المذيع :كن جميلاً تر الوجود جميلاً ،واضحك تضحك لك الدنيا .تلفتُ حولي :على المقعد المجاور بقايا كعكة البرتقال التي أكلتها البارحة ،وقشر موز مسودّ ،خلف المقعد يوجد فراشي تتوسطه بقعة بنية اللون (بقعة شاي نسيت غسلها ) طرف الغطاء محروق من عقب سيجارة ،بجوار دواسة البنزين حذائي الذي اشتريته في العيد ماقبل الماضي .إنه يبدو جديداً وسيبقى كذلك ولو امتد به العمر عشر سنوات ،لأنه ليس حذاء حـمّال أو تلميذ .أظنه المستفيد الوحيد من مهنتي هذه .بعدما أحصيت أشيائي قلت : حسناً ـ ياسيدي المذيع ـ هذه دنيتي هل أكون جميلاً وأضحك لها ؟!
و فعلاً استغرقتني نوبة ضحك عارمة أحسست معها بنشوة وببعض الراحة لكني لما لمحت نفسي في المرآة أضحك وحيداً كالمعتوه ارتعش فكي وشعرت بثقل في صدري ثم اغرورقت عيناي ، فتحت زر ثوبي الأعلى وابتلعت عبرتي .ماكان عليّ أن أصدق المذيع فهو لا يعرف معنى أن يكون المرء سائقاً يقطع لياليه الطويلة بـ <> تعدل مزاجه وتلتهم نصف أجرة النقل .
أمامي الآن نقطة تفتيش . وأنا بكل صراحة أكره رجالها وكلما مررت بهم تذكرت طرفة رواها لي صديق ، يقول أن جحا دُعي إلى وليمة فحضرها بملابسه العادية ولم يلق حفاوة تذكر ، فعاد وغـيّر ملابسه فتغيرت المعاملة ولكي يلقن مضيفيه درساً أخذ يدس الطعام في عباءته ويقول لها :كُـلي ،لقد قدروك ولم يقدروني .ما كان جحا مهرجاً أبداً ،فصاحب السيارة الكاديلاك السوداء الجديدة التي أمامي سيمر بسهولة وسيرفع رجل الأمن يده له مـحيياً ،أما إذا أطلت شاحنتي بحملة التبن هذه فسيرفع يده ليوقفني ويفتشها جيداً بحثاً عما يؤكد به ريبته فيها وفي . إحقاقاً للحق أقول : ربما يكون تساهله مع معظم السيارات المارقة أمامه بسبب وجود النساء فيها ،أعني ربما يكون الاحترام للمرأة لا للسيارة ذاتها .المصيبة أن المرأة لا تكف عن المطالبة بحقوقها التي هضمها الرجل .عندما أعود لبلدتي سأتصل بالمذيعة التي تتبنى مطالب النساء في برنامجها المسائي ” صوت حواء” وسأطالب بالمساواة .
بعد أن أنهى رجل الأمن فحص أوراقي أدار لي ظهره ومضى .حتى الابتسامة استكثرها عليّ .قلت لنفسي :لابأس سيسلم وسيبتسم ولو عرفني فربما يعتذر عندما أعود له بسيارةٍ كاللكزس السوداء التي تتهادى تحتي الآن . لما وصلت القرية تركت شاحنتي في عهدة صاحب حملة التبن ليفرغها ومضيت إلى مطعمنا المعهود .دخلت فوجدتُ صديقي صالح فيها .سـلّـمت عليه وسحبت كرسياً لأقاسمه طاولته وطعامه .سألني عن أخبار مشواري هذا ،فقلت له : الأخبار ماتسر ؛بعد النقلة الأخيرة حلفت أن أقاطع الحبوب نهائياً وفعلاً ما أخذت احتياطي للرحلة وكانت ليلة البارحة ليلة غريبة .كل الخواطر كانت سوداء وكلما فكرت في مشروع أجدني أصل إلى نهاية سيئة .
ضحك صالح حتى ارتج كرشه الكبير ثم قال :أنا قلت لك من الأول ما تقدر تكمّـل بدونها تحسست جيبي الخالي وقلت : لكن ثمنها …
نقربسبابته صدغه وقال : المهم راحة بالك .أنا ـ مثلاً ـ البارحة أخذت اثنتين وكانت ليلة …ماوعيت لنفسي إلا وأنا أضع اللمسات الأخيرة للحن رائعٍ !تدري أفكر بعرضه على أحد المطربين المعروفين ليركب عليه كلمات مناسبة لتكون أغنية الموسم .
ضحكت وقلت : يمكن معك حق . تصدق ؟ آخر شيء فعلته البارحة أني تزوجت ! كانت حلوة وبنت ناس لكن …الشيطان من جهة ، ومزاجي السيء من جهة ،وكلمة مني وكلمة منها ..طلقتها .
ضرب صالح كفاً بكف وحوقل ثم قطب جبينه وفكر ملياً ،بعدها سألني : هل ستبقى الليلة هنا؟
قلتُ : لا .لابد أن أرجع.
تلفتْ حوله ثم دس يده في جيبه وأخرج حبتين ووضعهما في كفي وأطبق عليهما بكلتا يديه وقال : هذي تكفيك الليلةوثمنها آخذه عندما نتقابل بـإذن الله .
قبل أن أفكر في رفضها أوقبولها كان قد دفع الحساب ونهض مغادراً ، ثم عاد فدنا مني وقال : أتمنى لك ليلة سعيدة ونصيحتي لك لإذا رجّـعتها ( زوجتك ) تحملها . هذي الدنيا ـ الله يعين عليها ـ ماتجيء ـ وأنا أخوك إلا بالصبر .
١٩٩٥م
من مجموعتي القصصية ” وحدي في البيت “
وأعدت نشرها في منتدى شظايا أدبية
http://www.shathaaya.com/vb/showthread.php?t=15759
من مجموعتي القصصية ” وحدي في البيت “
وأعدت نشرها في منتدى شظايا أدبية
http://www.shathaaya.com/vb/showthread.php?t=15759