قبل ليلتين عقدت اجتماعاًمع أنا وأنا لنتناقش حول آخر قصة كتبتها ( لنضع خاتمتها) وللأمانة أقول بأن هذه القصة ليس لي فيها سوى خاتمتها فقد قابلتني في مجلس العائلة منذ أسبوع ناضجةً تماماً؛ إذ قال والدي أنه وجد خزان الوقود بسيارته مفتوحاً وحوله قطرات من البنزين. باستنكار أضاف أن ذلك تكرر عدة مرات.
بادر أخي قائلاً : أكيد واحد يحاول يسرق البنزين.
رشف أبي قهوته وقال: كل يوم؟! ثم كيف؟ لو كان يستعمل خرطوماً لما وجدنا آثار البنزين تباري خطواته وهو رايح! إلا إن كان يستعمل خرقة.
قالت أمي: خرقة؟! الخرقة ما تمتص إلا كمية قليلة .. ماذا سيفعل بها؟!
– يشمها. قلتها بسرعة، ثم أحسست أنها ( الفكرة ) أكثر شيطانية مما تحتمله براءة الجالسينفاستدركت قائلة: لقد قرأت تحقيقاً صحفياً عن أولاد يشمون البنزين كمخدر.
– يا الله جارك! قالت أمي بأنفاس متقطعة. أمّن والدي : والله أنك صادقة .. قطرات البنزين تتناثر في خط مستقيم حتى تصل باب حمام المسجد القريب.
راقت لي الفكرة” مدمن يشم البنزين في حمام مسجد” سأكتبها ( هكذا قفرت ) فيما قرر الباقون البحث عن وسيلة لتأمين خزان الوقود.
وجدت ساعتها أن من واجبي شرح أضرار المخدرات على الصحة، بعدها عرجت على ذكر أسباب الوقوع فيها مركزة على أصحاب السوء وأثرهم، وبدا لي أن أختم حديثي بقصة التفاحة المهترئة التي تفسد صندوق التفاح.
ما إن شرعت فيها حتى مدني فتانا الطيب بفنجانه ونهض قائلاً : تفاحتك هذي تعفنت.. ارميها أحسن.
سكتّ متذكرة أني أروي له هذه الحكاية منذ خمس سنوات. خرج ولحقه والديّ ، وبقينا وحدنا ( أنا والحكاية ) استحضرت المدمن الصغير ( لو لم يكن صغيرا لما لجأ للبنزين ) شكّلتُ جسده؛ فجعلته أسمر، نحيلاً جاحظ العينين أحمرهما، راعش الأطراف، زائغ النظرات.
حين أنهيت صنعه رفعته بمنكبيه المحدودبين، وجريت به صوب حجرتي. ألزقته بآخر صفحة في مسودة قصصي ثم أعدتها لجارور مكتبي.
نسيت الأمر ثلاث ليال، وفي منتصف الرابعة استيقظت مختنقة برائحة نفاذة. تلفت حولي فوجدت الجارور فاغراً فاه. نظرت نحوه بريبة فهمس لي : إنه مجنونك الجديد يفعلها ثانية.
تذكرت حينها أني نسيت أخذ الخرقة منه، فتحت كراستي بسرعة، دسست يدي في جيب الولد وانتزعت الخرقة.
رطوبتها أفزعتني. ألقيتها من النافذة وغسلت يدي سبعاً، ثم عدت لفراشي.
تمتمت بآية الكرسي والمعوذات، وعزمت على حسم القضية، فاستدعيت أنا وأنا لننهي القصة وأرتاح من أوحدها المرعب والذي يقاسمني حجرتي.
بسطت القصة أمامهما وشرحت ملخصها، ثم قلت: يمكننا في الختام أن نجعل أبي يقبض عليه عقب طول ترصد، أو نجعل النهاية أكثر درامية بأن يحضر والد الفتى للصلاة في ذات المسجد، ويدخل الحمام في لحظة الصفر ليشاهد ابنه على هذه الحال.
انهمرت دموع أنا الأولى وهتفت: ما يصير أنت تعاقبينه في الحالتين.. الولد مسكين ( ضحية ) ولا يجوز أن يعامل هكذا.
قلت لها : هذه مجرد اقتراحات .. أنا – إلى الآن – ما كتبت شيئاً.
جففت دموعها ودنت مني قائلة: صحيح؟! زين .. أنا أيضا عندي اقتراح..هاتي إنساناً لا علاقة له بالموضوع يكتشف أمر الولد بهدوء ثم يأخذه للعلاج.
لم ترق لي الفكرة، نظرت لأنا الأخرى فقالت: صار درس تربية . هتفت أنا الأولى : ” طيب خليه يشرق بالبنزين ويرتاح من ذا الحياة!
– كيف يشرق به؟! أنا قلت يشمه .. ما قلت أنه يشربه! وعلى كلٍّ لا تغضبي .. لن أجعل أياً من الرجلين يضربه أمام القراء بل سأترك النهاية مفتوحة ليضيف كلٌّ ما يراه مناسباً.
– هذه وحشية.. أنت كذا تعذبينه أكثر عندما تتركينه تحت رحمة كثيرين؛ واحد يغري الوالد بولده ليعاقبه وهو من أهمله، وثانٍ يخلّصه من بين يديه ليهيم على وجهه في كل مكان، وثالث يرده لنفس الحمام ويدفع شرطياً نصف نائم ليقبض عليه، ورابع لا يقرأ القصة فيفنى عمر الولد وهو يشم.. حرام عليك!
فردت منكبي وشمخت بأنفي وأنا أقول لها بحزم: كلماتك لن تعوقني عن تلمس جراح مجتمعي، فأنا ” لا أكتب من أجل الترفيه “
وجدت للكلمات الأخيرة وقعاً مختلفاً أشعرني بزهوٍ بددته أنا الأخرى حين قالت بنبرتها الرتيبة : أنا أيضاً لا أؤيد اقتراحك لأسباب مختلفة؛ فالخاتمة الأولى لا تعجبني لأنك بها تنصبين الوالد ( والدك ) حامياً للأخلاق بدافع من عاطفة غريزية بحتة فيما أعرف أن كل أب في زماننا هذا ينزوي بأهله برعب ليعصمهم من مدّ الانحرافات الوافدة. أما الخاتمة الأخرى فمفتعلة بغباء لإراحتك من عناء البحث عما هو أفضل، ثم أن الصدفة لا تصنع عملاً ناجحاً وأنت – هنا – تذكرينني بمسلسلاتنا العربية التي يمتد واحدها أكثر من أربعين حلقة بأحداث تزيد همومنا هماً لتفاجيء الحلقة الأخيرة المشتركين في العمل فيهبون جميعا، ويعود البطل الغائب ويستيقظ ضمير المجرم بعد أن يلتهم الحريق مخازنه إثر دعاء أم البطلة عليه فوق سجادتها التي لا تظهر إلا تلك الليلة، ثم يتزوج البطل البطلة، وإن كان هناك أكثر من بطل فإن المخرج يقتل أقلهما وسامةً بنوبة زكام إذ الوقت لا يتسع للبحث عن عروس تليق به. أليس هذا ما تحاولين تطبيقه في قصتك هذه؟
سؤالها الصدمة جعلني أنكمش خجلاً لألمح أنا الأولى متلبسة بضحكة مكتومة أحالت خجلي غيظاً.
دنت أنا الأخرى مني وهمست : استعملي عقلك وستحصلين على نتائج أفضل.
لما انصرفت التفت للجالسة بجواري فافتعلتْ ملامح جادة وواستني على صراحة زميلتها الفجة ثم تقافزت خارجة دون استئذان.
زفرت بقوة: إذن فُضّ الاجتماع ولم نصل لقرار؟!
أعدت القصة مكانها وعطرت حجرتي، ثم أطفأت الضوء. حاولت النوم فما استطعت بسبب رائحة البنزين التي انتشرت مجدداً في أرجاء غرفتي. انتزعت القصة من الكراسة وتسللت للمطبخ. تحسست طريقي في ظلمته، بسرعة أشعلت عود ثقاب فأطفأته أنا الأولى وتعلقت بساعدي متوسلة: لا تحرقيه.. وأنا آخذ لك منه وعداً بألا يعيدها وأن يغدو رجلاً.
وضعت أنا الأخرى يدها على كتفي وقالت: صحيح تبغين تحرقينه؟!
– إيه.
– لكن القضية مهمة.
– يمكن.. لكن أنا ما أقدر أساعده.. ما أقدر أنشر القصة.. الناس عندنا يفصّلون الحكاية على قد كاتبها أو على قد أهله.
أدرت لهما ظهري وأشعلت عود ثقاب آخر، قرّبته منها فاستحالت كرة من اللهب.
استعبرت أنا الأولى : حرام .. احترق بسرعة.. أكيد كان يشم من فترة طويلة.. ويل لأهله من الله، أما هو فــ … الله يرحمه!
– الله يرحمنا جميعاً ! قالت أنا الأخرى بنبرة حزينة وأنا أعود بخطوات ثقيلة لغرفتي.
البارحة أيضاً لم أستطع النوم إذ كنت أهب في كل مرة لأغسل يدي الملطخة بسائل أحمر نفّاذ.
١٩٩٦م
من مجموعتي القصصية وحدي في البيت