العصلة
قبل الفجر استيقظ ، وسحب الحمار ، واتجه للشرق ، حين ابتعد عن المنازل نظر نظرة في النجوم ، فحشرجت ، وحنّت لها أضلاعه .
يلمحها من بعيد مع نسوتها ، يعدل غترته ، ومن جيبه يخرج علبة طيبه الصغيرة يولج ميلها القصير بين لمته الكثيفة وشحمة أذنه ، يفرك نقطة أخرى بأصابعه ثم يمررها على وجهه ، متوقفاً عند شاربه النابت للتو .
يحاذيها ، فتسوي شيلتها على رأسها ، يحيي البنات ، وينشد لهن .
عند راحتهم من الاحتطاب يقترب منها ، يخبرها أن ضروع شياههم يبست ، وأنه ذاهب مع الرجال للبحرين ، ينظر في عينيها ليقرأها ..
هي لا تبتسم ، وهو يدري أنها لن تبكي بالتأكيد .
تخطط بعود معها في الأرض ، ويحسب وهو يراقبها أقصر مدة قد يقضيها هناك ، ثم يقدّر أنها كافية ليعود فيجد صغيراً يشغلها عن الاحتطاب وينسيها صوته .
صد عن دموعه ، ثم دس في يدها قنينة عطره ، حفظ تقاسيمها وراح .
الفرشة
تحت شجرة السمر الكبيرة تظهر إحداهما مستندة للجذع الشائك ، ومع اقترابهما تبين جديلة الأخرى من خلف الشجرة . يدنوان فيعرفان ؛ هي متيبسة ، نقوش الجدري لازالت بادية على وجهها ، وجثتها لم تنتفخ بعد ، الأخرى ربما غداً ، وربما بعد غد تعود معهما من يدري .
يقبل الصغيران الحافيان ، يتقدم أكبرهما ، ويتباطأ الأصغر متجاهلاً نار الرمل تحته .
التفت له الكبير بعيون مليئة بالدمع : لف غترتك على وجهك ، وتعال ساعدني ندفنها .
الصغير اقترب وعينه معلقة بالأخرى خلف الشجرة ، وعيونها التائهة لا تحط في عينيه الغارقة في الملح ، يحفر ، ويبكي ، ويحفر ويتذكر نظرات شقيقتيه أمس ؛ لم تكن نظرة الوجع فقط ، كانت نظرة الوداع لكنه لم يفهمها وقتها .
يحفر وأخوه يصرخ : يكفي تعال ساعدني نسحبها ، فيحفر أكثر وينشج .
يأتي بها الكبير يضعها في الحفرة ، ثم ينظر للثانية ، يمسح دمعة بطرف غترته ويمضي .
بعد خطوات يلتفت .
– إذا اقتربت منها قد نأتي بك غداً مجدوراً وتجلس جنبها .
الصغير يدس شلفة في يدها ويلحقه .
المقصورة
الرجل الأشيب يدق القهوة في نجره بنغمة مختلة ، وأصوات من حوله في المقهاة تعلو أحياناً على صوت نجره ، وتصمت قليلاً وكأن ليس في المجلس إلا هو ، يحكون عن الغزو، وهزيمتهم في المعركة الأخيرة .
لما وضع قهوته على النار قال : يا الربع ، جئناهم غازين وهم غارين آمنين ، وقتلنا منهم ثمانية ، وجاءونا في الضحى من النهار وقتلوا ثمانية ، هذا عدل الله ، وخلونا ننهي ذا الحرب بيننا وعيال عمنا ..
تعالت أصوات شبابهم : والله ما نخليهم ، نخليهم يعيروننا بها ؟!
قال مشدداً على كلماته هذه المرة : كل رجّال منا برجّال منهم وانتهت .
ساد الهرج ، بعضهم يواصل الرفض وبعضُ يختار من القبيلة الأخرى قرناً لائقاً لقتيله الأقرب .
حين تناتف الرجال الرجال بقي هو ، بقي جسد خاله المدمى ولا مقابل له إلا أخس القوم ، فصرخ : فلان الرخمة بخالي الشيخ ، عليّ الحرام ما يصير .
خرج يتبعه شقيقاه وصغير للفقيد كان الحصى يتطاير تحت وقع خطواته .
الحليلة
يتأكد من خلو الدرب ، يتحسس البلحات الست في جيبه ، يبتسم ، يمسح حبات العرق المتحدرة من ناصيته على عينيه ، يظهر له البرج الصغير النابت في جنب البيت الأيسر ، ويرى آثار جمال مارة ؛ من بيت سيده قادمة ، متجهة للحليلة ، يقبض على بلحاته ، تطرأ أكثر من فكرة بباله ، ويتشبث بهذه ” أتى بعبيد جدد ”
كانت الحليلة صامتة على غير عادتها ، دفع الباب قليلاً ، النساء في دائرة ينشجن ، نظر لزوجته القصية فيهن ، استعبرت ، وبكمها مسحت وجعها وغاصت في غرفتها .
ناداه الرجال من زاويتهم المعتادة ، تلفت في المكان ، رأى الوجوم حتى على الصغار ، ولم ير صغاره .
لاهثاً خرج ، وفي الحلق عبرات أكبر من حجم بلحات غص بها حين رأى سيداً في الأفق وهو يسرق من النخل ، على درب الركائب يمشي ، يفرز البلح في جيبه ، ومع كل واحدة يعد صغيراً، ويتذكر ملامحه ، بكى لما لم يتذكر بدقة تقاسيم أصغرهم .
على باب مجلس سيده وقف ، الشمس تغلي دماغه ، يمسح دموعه ، وتزيد .
الأحمر ذو الثوبين يحمس قهوته ، فيقف بعتبته ، فيخفض السيد رأسه قليلاً ، ثم يرفعه مديراً إياه للجهة الأخرى ، يسأله ويتمنى ألا يسمع الرد : بعتهم ؟
– بعتهم …
– ……………
– أحسن لهم .
– كلهم ؟! ما خليت أحداً منهم لي ؟!
– ………
– كانوا سيكبرون ويخدمونك .
– ما عاد عندي ما أطعمك أنت وإياهم .
– كنت بعتني وأمهم معهم .
البطحاء
النساء في الليل في المسيل ، وأصوات الرجال تأتيهن من بعيد ، وهي بين الملاحيق تسولف معهم ، وحماها الذي ميز صوتها من مجلسه يزجرها : اقصري الله يبلاك .
وتغادر الشباب لرفيقاتها ، تخبرهن بما استجد في حكايا العشاق ، وتنام .
حين تهدأ الأصوات يتذاكرن ليلتهن الفائتة بهمس ، غابطات من ناداها زوجها البارحة ، حاسدات من نوديت ليال متوالية .
بعد أن غفت عواجيزهن ، ويائساتهن ، ظلت البقية مرهفة السمع بالانتظار .
تناومن مع اتضاح خطوات تقترب ، صاح بصوته الأخن : يا فلانة .
– يا لبيه . قالتها وقفزت ، فشددنها فيما هو يتجه لأقصى المسيل ، أولاهن تطوي لها حصيرها الصغير ، والثانية ترشها من عطر معها ، والثالثة تدس في فمها حبة قروض متضائلة بعد أن لاكها أكثر من فم .
ذهبت ، وانشغلن بالتفكير فيمن ستسرق لهن اليوم ما يشاغل جوعهن .
* العناوين بداية كل مقطع أسماء أماكن قديمة في بلدتي ، أما المقصورة فهي مكان اجتماع الرجال بين البيوت
نشرتها في موقع جسد الثقافة
٤-٥-٢٠٠٦م
http://www.alriyadh.com/151426