” رش خفيف جلى وجه الرمل فأشرق ، سمرات البر تشبهني أو أشبهها ؛ من مطر لمطر لا تغادر ، ولا تنحني .. أنا سعيدة يا صديقي .. الرش يغسل روحي ”
رسائلها القليلة حين تأتي تجلو روحي الصدئة ، أتلوها وابتسم .. بالأمس فقط غيرت اسمها في جوالي ( سميتها عشتار )
هل أجرب البر لعلي أعشقه كما يليق ببدوي ؟
تذكرت مكالماتنا القليلة الباردة ، وقررت أن يكون لدي ما أحكيه لها في اتصالي الآتي ..
أجمع صغاري ونركب ، تشجعهم نصف ابتسامة على وجهي فيغنون ، ويطلع لي وجهها في المرآة بينهم ، وأتفكر : منذ متى توقفت عن عد الأيام مذ صرت أمهم وأباهم ؟
على كتف الصحراء نقف ، ينسلون شطر الرمل ، وأحفهم بعيني ..
يجوسون في المكان ويبرقشون وجهه العتيق بخطواتهم الحافية ، ثم يعودون .
لغتي تضيق عما يناسب موقفاً استثنائياً كطلعة بر فأخفي وجهي في كيسي المتقشف .
أفرش سفرتي البلاستيكية وأفتح علبي القليلة وأوزع الخبز وأوامري .
يلتهم الأولاد فطورهم وأمضغ معه توجيهاتي ورملاً تسفي به ريح فتية إليّ .
مع قطعتي الأخيرة أتذكر أني نسيت الكرة ، وأفكر كم من الأعين في أعطاف هذا الرمل ستستفهم عن ” الأجنبي* ” وأطفاله الذين لا يعرفون من البر أكثر من فضاء أوسع للأكل .
أجمع ما بقي ويتبعثر الصغار من جديد ، وأتذكرها أخرى ( أمهم ) ، وأسألني : منذ متى بهتت صورتها ؟ منذ متى استبدلت كرهها بحقدي لأنها خلتني معهم ؟
لو كان لأفكاري صوت وسمعتني أمي لاستغفرت ثم قالت : ” مقدر ومكتوب ” ولربما بعد قليل – حين تتذكر كم صارت الكلمة تؤلمني – ستقترف ست أوسبع جمل قبل أن تجد موضوعاً يحمي صوتي من أن ينزلق في البؤس .
ومتقمصاً لسان أمي أصرفني لغير الراحلة ، وأستحضر عشتار امرأة أشكلها كل يوم ، ويلهيني جمال روحها وصوتها عن أرسم تفاصيل جسدها الذي لا يقربه لسانه ولو بفلتة ، أتمناها ، لو أستطيع أن أكتب لها الآن !
ماذا أقول لها ؟!
الناس لا يفهمون الحقيقة حين أقدمها بلا ملابس ، ولا يفهمونني فيبتعدون وأتألم ..
أنادي صغاري ، يلتمون وعيونهم على شفتي وأحكي :
هي عادة قديمة لأجدادكم وسنحييها اليوم
إذا ضاقت صدور أجدادكم أتدرون ما يفعلون ؟
– يغنون . قالت الوسطى
ضحكت : صحيح ، ولكن إذا ضاق صدر أحدهم جداً راح للبر ، يحفر حفرة صغيرة ، يحكي فيها ما يوجعه ويدفنه ، والآن سنفعل مثلهم .
قال أنضرهم : لا يوجد ما يضايقني ؟
قلت : احفر حفرة وضع فيها أمانيك ..
أردت أن أكمل : ولا تدفنها حتى لا تكون فأل سوء ، لكنهم كانوا قد انتشروا .
بقيت الكبرى ، قالت : سأحفر اثنتين يا أبي ، واحدة لما يقهرني ، والثانية لما أريده .
أومأت مباركاً وراحت .
انتحيت بحدبة قريبة أنبش جذرها ، وأحفر ويتهايل ما حوله دافنا ما أحفر .
أقيم كفي الأيمن كتفاً أعلى للحفرة تحمي سافلها من عاليها ، وحكيت : ” صدري يوجعني ، راحت لا أسعدتني بوجودها ولا رحيلها أراحني ، هم يحتاجونني وأنا تعب ، يدي باردة ، وقلبي فاضي .. قلبي يوجعني يا رب “
رفعت كفي فغمرت الحبات المستديرة الشفافة نصف الحفرة ، ومسحت وجهها بكفي مساوية باقيه .
عن يساري حفرت أخرى أصغر ، ثم صرت أقبض على الرمل وأذروه فيها ومع كل قبضة أمنية .
صغاري الذين فرقتهم الحفر يجمعهم اللعب الآن ..
أوسد رأسي الرمل وأعلق عيني على السماء ، زرقتها تبهت بالاعتياد ..وأتذكر أنا أن دفن الأوجاع طقس مؤنث ، وأتساءل : هل تغلغلت فيّ أمومتي الحادثة لذا الحد ؟
نركب مغادرين وبعض الطبول تقرع قرعاً أولياً هنا وهناك ، أكتب لعشتار : ” الدواسر كائنات من طرب ”
حين أدير وجه السيارة أنظر للمكان ، فيبدو لي تكتمه مهيباً ، أوجاعنا لم تغير في سحنته شيئاً ..
أحسد الأرض ، وأنشد وصغاري يرددون .
* في ديرتي كل من هو من خارجها أجنبي .
نشرتها أولاً في موقع شظايا أدبية
١٥-٦-٢٠٠٧م
http://www.shathaaya.com/vb/showthread.php?t=62713
ثم في موقع القصة العربية
http://www.arabicstory.net/?p=print&tid=11282