تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » “بنت عطشة”

“بنت عطشة”

جريدة الرياض تنشر مقتطفا من روايتي الخامسة والتي تصدر قريبا عن دار ديوان المصرية

جنازة زابن وصلت شارعنا، في طريقها إلى المقبرة، زابن ملفوف بقماش أبيض ومغطى ببشت بُنِّي، على قطعة خشب فوق رؤوس رجال يوسعون طريقهم بيننا بالرحمات.

حين مروا فحصت وجوه الذين يحملونه، عيال زابن الأربعة ممسكون بحواف النعش، من السائرين خلف النعش الشويعر (سعد) صاحب أبي القديم، لم يعودا صديقَين، أبي لم يدخل بيته من سنة، وسعد زارنا آخر مرة قبل أشهر وخرج غاضبًا.

فجأة تحرك النعش فوق الرؤوس، الجسد الملفوف يتحرك، خرجت يد زابن من القماش فارتاع حاملو النعش وأفلتوا الخشب، سقط على الأرض فانفك كفنه واعتدل جالسًا، ظهر جلد صدره المُرقَّش ببقع بنية، وشعرات شائبة بين ثديَيه، هربنا؛ العيال والبنات وبعض الرجال.

دخلنا بيتنا، أبي التفت إلى أخي، إلى شعره أولا، قبل أن ينتبه لقدمه، جرحها انفتح مرة أخرى، وتكورت على فم الجرح اليابس نقطة غامقة كثيفة، سأله عن سبب الجرح، الغبي وقف يابسًا بلا كلمة ولا كذبة، أبي شبَّهه بالناقة «تهبِّد» فلا ترى الدرب.

بكى فضمَّته أُمُّنا، رفع أبي صوته يسألها لمَِ لا تعتني بنا بدل انشغالها بمَن عاش ومَن مات؟ ردت بأنه لو كان يتصرف مثل الرجال لتفرغت لعيالها، لا أعرف لماذا تضايقه؟ قد يغضب ونتأذى كلنا.

بسرعة أعلنت أن زابن عاد حيًّا، سكتا للحظة، نظر أبي نحوي، أُمُّنا رفعت ذقن أخي، هزَّ رأسه يؤكد كلامي، أبي يقول إنه لم يمشِ في الجنازة؛ لأنه علم أن زابن عمره عمر «القرين».

أبي أذكى منها، ينتبه لما لا يمكن لها أن تفهمه، زابن مات قبل عدة أشهر، وهذه الثانية وقد يكررها. ابتسمت وأُمُّنا صبَّت عليَّ نظرة حارة، أمرتني أن أعاونها في تحضير الغداء، أبي يعدها أن تتضاعف الدراهم في يده أضعافًا لا يمكن عدُّها، وهي تقول إن الفقر سيحتُّ رموشه وهو رابض.

على الغداء، ذكَّرَته أن الله رزقه عملاً يتمناه غيره، وأنه لو قام به لأغنانا.

– أقول لها مال قارون وتقول المعاش!

نظر إليَّ مبتسمًا، فابتسمت. اصطادتني وأنا مبتسمة:

– بنيَّتك، تحبون تخالفون الملة.

هي تكرهني إذا أرضيتُه، أما أبي فابتسم لي: «هذي زرعي البكور».سحب أبي صحون السَّلَطة لتكون على مسافة مضبوطة من بعضها ومن صحن الأرز، ثم نظر إليها لتعرف الموضع الصحيح لكل شيء، الأم استغفرت اللَّه بصوت واضح، ووضعت لقمة أرز في فم الصغيرة، تحكي عن كيف يجب أن يتصرف الرجال، ذكَّرها بأنها لو وضعت رجال البلدة في الميزان لرجحت كفَّتُه.

سخرت منه: «أنت نازل من عند ربك بسلاسل».

سمعنا طرقًا على باب بيتنا المفتوح، ياسين السوري (صاحب أبي الجديد) ياسين ليس سمينًا، لكنَّ له لُغدًا يتدلى تحت حنكه؛ مثل لُغد البقرة، بدلاً من البنطلون والقميص اللذين يلبسهما الأجانب فردة، يلبس ثوبًا شتويًّا في الصيف والشتاء، وطاقية مخرَّمة وبلا غُترة. أدخلناه المجلس، عدنا لأبي ففزُّ خاطفًا الصحن.

أحضرت الأم سفرة جديدة، أعطتها أخي مع صحنَي سَلَطة وأمرته أن يتغدى معهما، بقيت أنا وهي والصغيرة وصحن سَلَطة.

عاد أبي يستعجل الشاي، عكس كل الآباء هو لا يحب القهوة، يشرب فنجانًا إن زاره ضيف غير ياسين، عدت لباحة البيت، الصغيرة تمسك طبق السَّلَطة بأذنيه وتشرب ماءه بعد أن بلعتها كلها.

عاد صحن الغداء وليس فيه إلا بعض الأرز وعظم فخذ، قعد أخي أمامي: «ما بقي لك شيء».

رفعتُ العظم، أدرته أبحث عن لحم، أشار إلى نتفة صغيرة ملتصقة بالعصب، نهشتها، ثم جمعت الأرز البارد في لقمة واحدة، وجه أخي في وجهي، رميته بالعظم فقام.

أُذِّن العصر، المجلس مغلَق، والكلام فيه همس، رنَّ الهاتف فرفعت أُمَّنا سماعته، تشهق عدة مرات، ما إن دخل أبي حتى عادت وإياه يتلاطمان بالكلام.

قالت بأن الدرب الذي يأخذه فيه «السَّرابيت» خطير، ضحك: “ياسين شيخ، بدل مئات الشغل صار معي آلاف».

أخرج نقودًا كثيرة من جيبه، ينفضها عند أنفها، تدفعها عنها بيدها، وتسأله عن آخر مرة ذهب فيها إلى عمله.

تقول إن ياسين «ابن حرام»، وإنه لن يترك أبانا حتى يُدخل رأسه في كرشه ويخزيه بين الرجال، هي تبغض ياسين، لكنها المرة الأولى التي تسميه فيها ابن حرام أمام أبي.

https://www.alriyadh.com/2149278

هل تود معرفة كل جديد ؟
يمكنك معرفة آحدث ما تم نشرة أول بأول , كل ما عليك هوا إضافة بريدك الإلكتروني