الجنون كالموت تذكرة ذهابٍ فقط
كل ما يقال عما وراءهما افتراءات
أو تخرصات متبجّحة
سأقامر فأقول إننا نصاب بأحدهما الموت أو الجنون)
حين نتذكر المستقبلبعد يومٍ أو أقل
دورة مياه أرضيتها من الرمل.. رملٌ موزعٌ بغير تسوية.. تنشق الأرض كجرحٍ غائرٍ.. من الشقّ تخرجُ نملة.. نملةٌ كبيرة ببطنٍ مصقولٍ كزجاجة.. تتبعها ثلاث.. أربع.. عشرون.. يدبّ النمل.. يزحفُ في كلّ اتجاهٍ.. مريم تخشى جيش النمل.. تفرد كفيها على جداري الحمام المتقابلين.. تفرد قدميها وترتفع خطوة.. خطوتين.. تتبوّل موجهة السّائل الأصفر تجاه النمل.. تصوّبه على الجُحر الذي يتسابقن عائداتٍ نحوه.. تحدسُ أن سروالها تبلل.. تتجاهل الفكرة وهي تضغط بكفيها وقدميها بقوة على الجدارين حتى لا تسقط.. لو سقطت سيجتاحها النمل..
يدوي صوتٌ.. صداه يجلجل في مسام مريم.. يقضم الصوت قلبها.. تفتح عينيها على اتساعهما.. تجد نفسها في فراشها.. في حجرتها.. الأصوات ترعبها منذ فترة.. لكن هذا مختلف.. أطرافها ترتعش.. أنفاسها تتلاحق.. ضلوعها تنطبق على رئتيها.. تضع يدها على صدرها.. تشعر بخفقانه في باطن كفها.. تسحب نفسها من الفراش.. تنسلخ عن الحلم.. تنجح بعد أن يرضّ لحمها الحي.. يبادرها بنبرته العابثة “قامتِ البقرة”. تدير بصرها بسرعة في أرجاء الغرفة.. تفتش عنه.. يندسّ تحت أحد ثيابها المعلقة.. تمدّ يدها لهضبة الأشرطة المبعثرة حول آلة التسجيل.. ترميه بأحدها.. تصيبه.. هي متأكدة لأنه يخرس.. بعد دقيقة تسمع أنفاسه أو أنفاسها.. تتوقع أنه قفز على الرفّ الخشبي الملون.. تمسح ببصرها الأواني الجديدة المرصوصة عليه.. يختبئ في إبريقٍ أحمر.. سمعت قعقعة الغطاء وهو يرده فوقه.. تتجاهله وتقف مواجه الباب.. تتخشّب رقبتها حين تمرّ بمرآتها المغطاة برداءٍ ثقيل.. يكركر “تتجنبين رؤية وجهك القبيح؟ “تُظْلم سحنتها.. استيقاظه بمزاج كهذا يعني أنه سيذيقها يوماً سيئاً جداً.. تحاول التركيز على أي شيء يشغلها عنه.. تلمح حمامةً بريةً على جدار بيتهم الشرقي.. تغمض عينيها رغم الصداع الذي بدأ ينبض في نافوخها.. تنصت للنوح الدؤوب.. الحمامة تكرر رسالةً واحدة.. ربما تحذير.. تحاول مريم أن تفهمها.. يشوّشها “وضعوها لتراقبك” ترد عليه وهي بالباب: كذّاب..
تنتفض الحمامة وتطير..
تقرر مريم الخروج من حجرتها.. توازن أقدامها بعناية: قدمٌ خارج الحجرة وقدم داخلها.. تنقل الثانية بحيث لا تلمس العتبة.. تنظر للجسد الهامد في باحة البيت.. الشمسُ طلعت وحصة في مكانها.. خطت ثلاث خطواتٍ باتجاهها.. تعاينها فتدرك أنّ شيئاً فيها اختلف.. تبدو أطول.. أو هي أسمن.. الأكيد أنّ جلدها أشد بياضاً.. يفحّ في أذنها “وهي كذابة”. تريد مريم أن تخالفه الرأي لكنه يقنعها.. نومة أمها المعتادة حلزونية تنكمشُ فيها على ذاتها.. هي الآن ممتدةٌ كجذعِ نخلةٍ وعيونها مفتوحة.. تقف مريم فوقها.. تنبهها.. حصّة لا تجيب!
يحذرها “إن اقتربتِ أمسكت بك” تنخفض باحتراسٍ.. بسبابتها تلمس كتفها.. تدير وجهها قليلاً.. تلمحُ لطخةً مسودة جافة على شحمة أذنها.. تكشطها بظفرها ولا تتحرك حصة.. تشم ما كشطته.. له رائحة معدنية كرائحةِ الحديد.. بصوت تقريرٍ باردٍ يقول: “لن تنهض. ولم تخبز الفطور” تروح مريم إلى المطبخ.. تجتاز عتبته الواطئة.. تقف للحظة لتعتاد عيونها الإضاءة الضعيفة القادمة من فتحة سقف صغيرة.. تجد نصف خبزة تنور محروقة الحافة.. تقضم الجهة الطرية منها.. تفلق الحافة السوداء اليابسة فلقتين.. تجرف باطنها اللين بسبابتها وتأكله.. على رفّ المطبخِ الخشبي إناء اللبن مغطى بقماشة قطنية بيضاء.. تحل الخيطَ الذي ثبتت به حصّة القماش.. تثورُ رائحةٌ كرائحةِ الإقط.. ترفع القماشة التي تلطخت بالحليب الرائب.. يغافلها فيسحبها من يدها.. يوقع القماش على الأرض “لا تشربي.. مسموم” تتردد.. تخفض رأسها تشم الحليب.. تُميل الإناء ناحيتها.. تمزّ ضامة شفتيها.. ترشف الحليب تحت الجلدة الرائبة.. بين رشفاتها يزعق.. يهمس “ابصقي فيه” لا تطيعه.. يضغط رأسها بقوة.. يغمر خطمها في الإناء..
يناديها أحدٌ باسمها.. ربما تكون أمّها.. تعود لباحة البيت.. حصّة في مكانها لا تتحرك.. تنحني على الجسد المسجى.. تسمع أنفاساً قوية.. ليست متأكدة أنها أنفاسُ حصة.. تسدّ أذنيها بيديها لتحجب كل صوتٍ في الخارج.. لا يصمتُ النفس.. تلمسُ بسبابتها بطنَ حصّة المرتفع قليلاً.. تضغط فوق السّرة.. تناديها.. تسألها: غاضبة مني؟ لأني لا أفعل ما تريدين؟
حصّة ما زالت تتجاهلها.. ذبابتان تسيران على خدها.. تقتربان من بؤبؤ عينها المفتوح.. ترمش مريم.. يغيظها “الملائكة تلعنك الآن” تسبّه فيرفرف في الباحة.. يلمس أشياءً بسبابته ويلعنها ويضحك.. يعود ليهمس بعد لحظة بصوت نسائي ساخر: “ماتت حصّة وتركت مريم”
ترجع لحجرتها.. تدفع بابها الموارب.. تزفر الحجرة في وجهها ما بقي من أنفاس الطيب المسكوب على مفارشها ممتزجاً برائحة أخرى حامضة.. يدير وجهها لترى قدرًا في وسط الحجرة.. تصدّ عنه وتقبل على فراشها.. يعرف نيتها فيحذرها “لا! سيسرقون البيت” تندس في الفراش.. مرات – حين تنام – يملّ ويبتعد.. يغضب منها “ملعونة” تعدد أيام الأسبوع من السبت للجمعة فالعكس.. تحصي جريد النخل في السقف.. تكرر ما تحفظ من آياتٍ.. يثقل جفنها.. تدخل أحلاماً كثيرة.. أحدها بين أطلالٍ خاوية على عروشها.. يطاردها فيه عيال هائجون.. مرة عند بئر معطّلة مع بُنيات شعث غُبر.. أصغرهن مدفونة في الرمل حتى خصرها وتنتحب.. في آخر أحلامها كانت تمضغ مخدة إسفنجية.. تلوكها وتشعر بحموضة في فمها.. قوام الإسفنجة المسامي يحك سقف حلقها.. يهيج عنق المعدة.. تنقلب أحشاؤها.. تفتح عينيها فتستفرغ.. سائل مخاطي تسبح فيه قطع صغيرة متماسكة.. يندلق السائل على فراشها وثيابها.. تستوي جالسة وهو يتشقلب من الضحك.. تزيل قطعة عجين لزجة من شعرها.. تنهض بإعياء شديد..
تتجه للفاتية.. ترفع بابها الخشبي وتحصي تجهيزاتها.. تجرب ثوبا لم ترتده من قبل.. تلبس خواتمها.. تضع إسورة فصوصها كبيرة وراء الساعة في كفها الأيمن.. يهمس “قبيحة” تهدده بأنها ستخلع الساعة وترميه بها فيخرس.. تخرج مرتعشتها.. توسوس أهدابها الذهبية الطويلة في يدها.. تحكمها حول عنقها.. تتحسس الأهداب الممتدة حتى منتصف صدرها.. تلمس جانب رأسها مرة أخرى.. تتأكد أنها ثبتت مقنعتها بمشابصها الثلاثة.. تقف في مدخل الحجرة.. تنظر جهة حصة.. صار جسدها كله في الظل..
تسمع طرقاً خفيفاً.. تخمن أنّه يشاغبها فتتجاهله.. يستمرّ الطّرق على باب البيت.. يخفق قلبُ مريم.. ربما جاء أخيراً.. أيكون هو الطارق؟ حصّة اختارت أسوأ وقت لتدعي الموت.. لا يجوز لمريم أن تفتح له.. يحاول أن يحبطها “ليس هو.. جارتكم عادت”
يزداد طرق الباب إلحاحاً.. ترج مريم جسد الأم بصمت لتنهض.. يعلو صوت أنثوي منادياً وراء الباب: يا آل خليفة!
صدق الكذوب.. هو حقا صوت الجارة! يشير بوسطاه إشارة بذيئة جهة الباب.. تقمع مريم ابتسامتها حتى لا تشجعه.. تبتعد عن الأم.. يتكرر النداء.. بعد اسم العائلة تجرّب الجارة اسمي مريم وحصة بالتناوب.. ترفع مريم غطاء الزير الفخاري لتشرب.. الزير فارغ.. حصة لم تعاود ملئه بالماء.. يخمد نداء الجارة.. تنتظر لتتأكد أنها غادرت.. ترتدي برقعها وعباءتها وتخرج.. في الدرب المتعرج تتذكر أنها لم تأخذ عصاها.. عصى بطول ذراع.. مفيدة في الطرقات.. يأمرها “ارجعي للبيت” تكمل مشوارها المعتاد.. تسير في درب ضيق.. يلح “العصا” يندلق ظلها على ما لم يمسح من خِطة رسمتها صغيرات على التراب.. خطوط الحجلة واضحة وآثار أقدامهن كذلك.. تسير بجوار الخطة متحاشية خطوطها.. عند المربع السادس تتمهل.. توازن قدمها داخل السابع.. تنقل الأخرى وراء المربع الثامن.. تنظر للحصيات المركومة عند رأس الخطة.. تتخير واحدة.. تغلق عليها كفها وتكمل سيرها.. ينفتح الدرب على براحة واسعة قبل أن يضيق مرة أخرى ويتفرع.. في البراحة يلعب صبية.. ينتبهون لها فينقطع لعبهم.. تنتبه لنظراتهم.. تسمع همساتهم.. بعد أن تتجاوزهم يتجرأ غلام فيضع اسمها في أهزوجة بذيئة.. يضحكون وينظرون ناحيتها.. يضعون ذيول ثيابهم في أفواههم ويقتربون منها.. يصرخ “اضربيهم أولاً” تجمد في مكانها.. يخطف الحصية حادة الحواف من يدها.. يقذف أقربهم بها.. يشج جبينه.. يطيّر شعرات من حاجبه.. يتدفق دم حار على وجهه.. يغمر عينه.. ينهمر على شطر أنفه وفمه.. تشوشها الصيحات.. تنحرف خطوتها صوب النخيل.. تكمل وهو ينقل لها صورة ما يحدث خلفها.. أحد العيال يغطي بيده جبين الولد المفلوق ويقوده.. يسوقه لبيت أهله.. يصف لها بصوت جذل ثياب الولدين المصطبغة بالأحمر.. يعيد عليها شتائمهم التي تتفاوت طولاً وقذعاً.. ينخفض الدرب فتلتفت للخلف.. الأفق يطوي العيال.. كأن لم يكونوا؟! صوت مكينة الماء طغت على أصواتهم.. تتبع طلقات صوت المكينة حيث ترتفع.. تقف على حافة بركة.. تتأمل الماء ينصب فيها ومنها للجداول وللنخل.. تلصق بطنها بجدار البركة البارد.. تزيح بأصابعها طحالب صفحة الماء.. تغمر يمينها حتى المرفق في البركة.. تخوض في ماء يكسّر صورة يدها وذهبها.. تستدير متكئة على حافة البركة.. تمسح بعينها جداول الخضرة.. ترصد باذنجانة.. يخفيها عنها بأوراق النبتة الخشنة المغبرة.. يتحلب ريقها.. تقبض على الحبة اللامعة بكفها.. تضغط بأصابعها على عنق الباذنجانة حتى ينبتر.. صوت انخلاعها أيقظ في صدر مريم ذكرى غامضة.. ذكرى الصوت الذي سمعته مرة واحدة فقط.. تشعر بخوف لكنها لن تربط بين الصوتين الآن.. نسمة هواء مرت فجاوبها حفيف سعف النخيل.. تقضم أسفل الباذنجانة.. جافّة مرة.. ترميها.. يطير سرب عصافير.. تستجيب لرغبة غير مفهومة بالعودة للبيت..
تجد الباب مفتوحاً.. تسمع لغطًا بالداخل.. حوقلة وابتهالات.. تظهر في باحة البيت.. تطلق إحداهن شهقة.. تُخرس الألسن الراضية بالقضاء صاحبة الشهقة.. يملأن الباحة بدعوة موحدة بأن يربط الله على قلب البنت.. حشد الأجساد يموج حول مريم.. في أذنها خليط أصوات.. ضجيج كثيف غائم.. يشقّه صوت ذكوري خشن من جهة باب البيت: غسّلنها.. نصلي عليها المغرب إن شاء الله.
مع الأمر الواضح المقتضب كُوّم جريد النخل في مدخل البيت.. تبادلت النسوة نظراتٍ وأوامر مقتضبة.. أُدخل الجريد.. فُرش في الأرض عدة طبقات.. وُضعت حصة عليه.. جُردت من ثيابها.. تحلقت حولها الخبيرات.. تجد مريم نفسها في ثغرة دائرتهن.. تدفعها إحداهن للخارج.. تشدها خمسينية سمينة لداخل الحلقة.. تسكت نظرات الاعتراض بأن عليهن ألا يمنعنها أن تشهد تغسيل أمها.
تقف مريم أمام جثة عارية تماماً.. يبدو إنها لم تكن تدعي الموت.. ماتت وسيدفنونها.. يصرخ في رأسها “أنت الملومة” تبكي وهي تنظر لجسد حصة المستسلم.. تغسل النساء الشعر الأشيب القليل.. تضفّره إحداهن في ضفيرة متقنة وهي تترحم عليها.. تبدو جمجمتها كثمرة عشر طال عنها الحيا.. تترحم النساء.. تتمتم مريم.. يثقب رأسها بصوته الطفولي هذه المرة “في شعرك قملة” تتجاهله لكن انتباهها يتركّز في شعرها.. تحس أطراف الحشرة المخلبية في صدغها.. تحك شعرها ويوجهها “وراء أذنك” تغرز أظافرها وتحك.. تتبع الدبيب.. تشعر بها أخيراً وقد علقت تحت ظفرها.. تمد كفها أمامها.. تنظر لأظافرها فتجدها تحشر نفسها بيأس بين ظفر ولحم البنصر.. دون قصد تدفعها امرأة خارجة من حلقة الغاسلات فتسقط القملة وتختفي..
تركز مريم على جسد أمها مجددًا.. تقع عينها على عانتها.. وصل دورها في الشطف.. بعض شعرات العانة ترمّد.. الشعرات الرمادية أثخن ومرتفعة عن السود.. لم تعرف أن شعر العانة يشيب.. صوته يختلط بأصواتهن.. يعلو عليها.. ينبهها لامرأة تدخل حجرة أمها.. يشير لأخرى تخرج من المطبخ “بدأ النهب” تجري وراء التي دخلت حجرة حصة.. نصفها العلوي في الخزانة الخشبية.. تغلقها وتعرض حبل ليف أخذته منها: مريرة.. للكفن.
لا تتلقى ردًا من مريم.. يصرخ “فتشيها” تبرم المرأة الحبل على كفها.. تخرج وهي تردد: الله يغفر لها!
تعود مريم لباب حجرتها هي.. تسده بيدين مفرودتين كجناحين.. يعجبه ذلك فتخفض يديها.. تراقب الحوامات في البيت وتبكي.. تواسيها إحداهن بكلمة لا تفهمها.. تهرول أخرى لباب البيت.. يتنحنح رجال في المدخل.. تتستر النساء ويدخل أربعة.. بألواح خشبية مثبتة في بعضها كأنها باب نحيل.. يحملون الجسد المقمط بالأبيض.. يتعالى النشيج.. يخرجون فتلحقهم النساء الباكيات.. يتركن لمريم باحة مفروشة بجريد ملطخ بالسدر والكافور.. يسيل ماء ضعيف باتجاه حجرتها.. تنتظر لسانه الأخضر ليجري من تحتها.. تعود عجوز ممن خرجن قبل لحظة.. تمسح عيونها المخضلة.. تنظر لكل الذهب على مريم.. تغض الطرف عنه.. تأخذها بيدها: هيا يا بنتي معنا نصلي على أمك..
*******