تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » إعدام

إعدام

” كل نفس ذائقة الموت” البنات يرددنها على الباكية التي وصلها خبر وفاة قريبة لها. أنفها أحمر وجفونها منتفخة مبلولة، وتنشج بين مواسية والثانية. غمزت لي إحداهن مومئة برأسها ناحية الباكية فاقتربت مثلهن وقلت لها نفس الكلمة.
لم أعرف من القرآن (قبل هذاالمكان) غير “قل هو الله أحد”، أكررها في صلواتي العجلى، وأحيانا أنتبه أنني خلطتها بالتحيات فأسجد سجدتي سهو ثم أرتد لعملي.
أخي في زيارة قديمة حكى لي حكاية عن الصلوات القصيرة والقرآن القليل: اليوم صليت الظهر بمسجد صغير في بلدة على الطريق، دخلت المبنى الصغير على جانب الخط فصليت ركعتين تحية للمسجد، وقعدت أنتظر الإقامة. دخل رجل أعمى يقوده ابنه، حين حاذاني تشمم الفضاء بمنقار طويل حاد ثم أكمل دربه. دخل شابان آخران فالتفت يتسمع خطواتهما ربما، ثم لم تصدر عنه حركة، وقف الإمام في المحراب واصطففنا وراءه، أمال رأسه جهة ولده وغمغم: معنا أحد؟ وتمتم الولد: لا يخلو الأمر.
قال أخي: بعد الصلاة قبضت على ساعده أسأله عما لغط به وأبوه: أنا المعني ومن حقي أن أعرف.
الولد أخبر أخي أن أباه سرق منه العمى المتمهل حياته فلم يبق من مهامه الأولى غير إمامة المسجد، وهو لا يحفظ غير المعوذات، لكنه يسمع الصلوات في التلفزيون فيتعلم سوراً يخبئها ككنوز ثمينة لايقرؤها إلا إن صلى معهم غريب.
أخي يضحك من حكايته، وأنا – من وراء الشبك – أنقل ثقل جسمي من رجل لأخرى.
يصف أخي رجلاً وينبت لي جِرْم رجل آخر. دق قلبي بعنف حين اكتملت صورة مسن مجدور، تذكرت الشعر الشائب في مناخره الكبيرة ورائحة الجيفة التي تنبعث من فمه. مغصني بطني فنفضت الصورة من دماغي وسألت أخي: ماذا قرأ لكم الأعمى؟
هرش شعر عارضه الخفيف بأظافره، ثم قال: أظنه قرأ الضحى؟
في زيارة أقدم سرد لي حكاية أحد أعمامي في حلقة البلدة، هذا العم وهو صبي ظل المطوع يجلده حتى ألمح الصبي لأهله بأنه يفضل النخيل على “القراية”
شرح لي أن جدي ما آلمه ضرب ثمرة قلبه، هذا العم فرصة الأسرة الأخيرة في ” فك الخط” وستفقدها. انتظر الجد نهارين آخرين قبل أن يمر الحلقة ( قال أخي : ليبدو مروره مصادفة ) لبد وراء جدار حتى سمع صوت ابنه يتلجلج والمطوع يحثه وينهره.
أقبل على الحلقة مسلماً، ثم انتحى بالمطوع: لا تضرب الولد لأجل هاتين الكلمتين ـ جزاك الله خيراً ـ وأعطه غيرها.
أصر المطوع أن يحفظ الولد الآيات قبل أن ينتقل لغيرها، وأغاظ جدي بالإشارة للعيال الذين وعوها.
– هداك الله.. ذي كلمتان ليست لنا؛ نحن عائلة لم تجمع مالا ولن تعدده… فلا تُشقه بها.
قال أخي: هرب هذا العم من الديرة كلها بعد عامين، ورسائله التي كان يبعثها كانت تظل أسابيع حتى يتبرع أحد في سوق القرية بقراءتها.
سكت لحظات خافضاً هامته،ثم فرك يديه واستطرد: لكن المال المطوي فيها كان يصرف في ساعته.
أحفظ حكايات أخي، وبين الزيارة والزيارة أعيدها لجدران الغرفة وحنفية الحمام وبطانيتي المقلمة. هذا العم – الذي لا أتذكره- ربما يشبه أبي قليلاً.. لكنه في الغربة اختلف، يشتاق لأهله وللهجتهم ولرائحة طعامهم، ويبكي منفرداً عندما يصمت بحكايات كثيرة يخشى ألا يفهمها من حوله.
هل بدلّ المطوع له الآيات بـ” كل نفس ذائقة الموت “؟
القرآن والموت لم يزورا البلدة كثيراً يوم كنت فيها، ورفيقتي قالت إن الله أخرج آدم من الجنة لأنه حاول ألا يموت. قالت: غشه الشيطان بالشجرة، ضمنت له الخلود بطريقة أخرى؛ أرته عورته وعورة امرأته ليتناسلوا ويملأوا الدنيا بالقرف ( نفثت القرف في أذني والحمى ترمضها، كانت تقبض على يدي وتوصيني: لا تسمحي لهن بأن يأخذنني لمستشفى السجن.
وهي تهذي قالت الكثير، لكن حديث الموت استكملته بعد أن فترت حرارتها.
– لم يخبرنا القرآن كيف مات آدم، لكنه جعلنا نرى ولده يقتل الولد الآخر..
كركرت: أول حدث نعرفه عن البشر على الأرض كان جريمة قتل؛ خشي الإنسان على قدره وهو بين يدي خالقه فعصاه لعله يُخلّد ( وقطبت حاجبها ) ثم عاد يطلب رضا ربه بقتل أخيه، ومازال إلى اليوم يتقرب إلى الله ويبطش بإخوانه.
كانت الوحيدة التي تتحدث كثيراً عن الموت والقتل أمامي؛ تنفرد بي لتقول كل ما لا تنطق به أمام الباقيات. لم تدخل السجن لأنها قتلت أحداً لكنها أقسمت مرة أن لو خرجت فستقتل اثنين بلا تردد.
جاءت وأنا لا أعرف من القرآن أكثر مما حفظ عمي على يد المطوع، وأقل مما يعرف الإمام الأعمى في مسجد القرية التي لن أزورها.. لكن الأيام والليالي هنا تعلّم الحمار.
قبل السجن كنت حمارة أهلي، ولا أجيد قراءة ولا كتابة. مدرسة الديرة لم أزرها صباحاً، دخلت فصول تعليم الكبيرات فيها وأنا صغيرة، زوجة أبي أمرتني عصر يوم بأن أحمل أخي وألحقها، ورحنا للمبنى الوحيد المليس بالجبس حتى رأسه، هي تدرس وأنا تحت طاولتها أهدهد الصغير.
احمر وجه أمي ونحن ذاهبتان، ورجعنا وقد ترمّد، لم تكلمني يومين، ولم تأمرني بأن أعصي العمة، ثالث يوم قالت لخالتي إن الملعونة تذهب لتهرب من العمل في النخل، وبنتي ( وثقّبْت بسبابتها ظلي ) تتبعها كأنها عبدتها. خالتي قالت إن الطماعة ( عمتي) تتعلم لأنهم قالوا أنهم يعطون من تنهي الدراسة ألف ريال.
لعنت أمي وخالتي العمة ولم تذهبا مثلها وظلتا تسألاني كل يوم متى تنوي أن تترك المدرسة؟
تنبتر أسئلتهن إن دخل أبي. خالتي تسلّم عليه وتهرب لبيتها، وأمي تصمت، ربما ماتت بصمتها، وأنا لا أنطق أمامه حتى حين يزور أحلامي هنا.
في الفصل كنت أقرفص بالرضيع تحت ذيل ثوب الملعونة، فإن بكى رفعته لها لتلقمه صدرها قبل أن تطردني المعلمة وإياه من الفصل.
الكلمات والحروف كانت تتدحرج من السبورة قبل أن تصل عمتي، تلتصق كاللبان بقوائم الطاولة. كنت تحتها أقشر حوافها الصدئة بإظفري، وأنقب اللبان الطري من بطنها وآكله هو وبعض الحروف والكلمات. القليل من الحساب عرفته أيضاً، لكن المرة الوحيدة التي أجبت فيها ومدحتني المعلمة هرست عمتي فخذي بقدمها.
لم أعرف غير بلدتي قبل السجن، وهنا وجدت أن لا أحد سمع باسمها من قبل، حتى في التلفزيون لا ذكر لها. قبل سنوات أرتني إحدى السجانات موقع بلدتي على الخريطة وانتبهت أن أصابع مذيع نشرة الأحوال الجوية تحوم حول البلدة ولا تلمسها، كمن يتحسس دملا ويتحاشى فقأه.
معرفة الصحف بالبلدة أفضل، أحياناً يكون فيها إعلانات منها: بطاقة أحوال مفقودة، مناقصة بناء مستوصف، حالة إخلاء طبي. في نهار جمعة قريب سينفذ حكم القصاص، ستكتب الصحف الخبر، وسيذاع في نشرة أخبار التاسعة في التلفزيون، سيتلو رجل آيات وسيذكر أرقام طويلة ثم سينطق اسمي، سيقول أنه تم القبض على الجانية قبل خمسة عشر عاماً.
سيقول ” غدرا وغيلة ” أحفظ الغدر والغيلة، و” صُدِّق الحكم” و”نُفذ الحكم قصاصاً” أي بالسيف.
لم تعد سيوف البلدة تقطع الأعناق، السيوف ترفع في الأعراس فقط، أما النساء فيمتن في مخاضات تتعسر، أو صريعات أمراض تمص لحمهن ببطء. لا أذكر أن امرأة ماتت فجأة، وكثيراً ما رأيت امرأة تحمل في بطانية، وينصب في طرف النخيل سريرٌ من أثل وسعف لتترك عليه تصارع موتاً يغلبها.
أكثر وصية في السجن تتداولها السجينات: ” احفظي أجزاء من القرآن ليخففوا مدة محكوميتك وقد يشملك العفو في رمضان ” يتواصين بها ويتحاشين صبها في أذني.
الآن بلغ آخر الصغار الرشد وتبع إخوانه رافضا العفو عني صدر الحكم وتم تصديقه من هيئة التمييز، بلغوني وانفضوا من حولي، بعد أيام مررت بالمجموعة التي تحفظ، مدتني التي تدرسهن بالمصحف، تربعت مثلهن وقلّبت صفحاته. التي تنام في السرير الذي يعلو سريري مرت بنا وغمزات لي لأتبعها. في مكان التشميس ضغطت على يدي: إن أردت دراسته علمتك، أما حفظه فبم ينفعك؟!
دنت منا سجينة أخرى وفردت يديها على كتفينا وصاحبتي تنفض ساعدي: غالباً سيحكم عليك بالقتل فكيف سيخففون عنك؟
بعد أن شبعت ضحكاً وجهت كلامها لصاحبتي: إذا حفظته كله فقد لا يذبحونها.. ربما يقطعون يديها ورجليها ثم يتركونها.
الأولى شحب وجهها وسحبت نفسها للغرفة وأنا سألت التي قاطعتنا: وكيف أخرج بأطراف منتوفة؟!
ـ أرأيت؟!
لم أر شيئاً وظللت بجوارها حتى انتهت فسحة التشميس، ثم عدت لمرقدي أنا أيضا.
أول إقامتي كنت كلما أعادوني من التحقيق أو الشيخ ألزم فراشي، ولم تعرف الجدران من حكايتي غير نتف قالتها السجانات. الشيخ الأول ترك الأوراق أمامه وصار يسألني عن حياتي، آخر مرة رأيته تهدج صوته وهو يحوقل ويقول للعسكر: ذي “حمار في منحاة” تشتغل في بيت رجلها ثم تروح لبيت أهلها تخدمهم ثم ترجع لبيته وعياله وإبله ولا ” جزاءً ولا شكوراً ” أحد يضربها وأحد يلعنها.
كان وجهه ألين من وجه الأخن الذي صرت أراه بعده، السجانة التي كانت تذهب معي عصرت زندي في السيارة وقالت: سيذبحونك.. انطقي.. قولي أي شيء، إن لم يكن لديك ما تقولينه اكذبي، قولي يضربني حتى أشرف على الموت، قولي عياله اغتصبوني.. أبكي يا بقرة.. هم يحسبون صمتك قوة، والشيوخ يكرهون المرأة القوية.
لم أعرف – إلا منها – أن البكاء مسموح، بكيت في السيارة، وطوال الجلسة، ولم أعِ من الشيخ أو العسكر كلمة، أعادوني وأنا أبكي.
في غرفة مديرتنا سحبوا طرحتي وانمط معها مزيج دموعي ومخاطي. أجبروني أن أغسل وجهي ومسحوه لي، ثم عدت أبكي في العنبر وفي فراشي.
جاءت ممرضة مصرية ودون كلمة رفعت ثوبي وحقنتني بإبرة، بعدها بلحظات بدأ البكاء يتقطع، وصار رأسي أثقل من أن تبقيه رقبتي مستقيماً، السقف يدنو وأنفاسي تتباطأ، حلمت بخلق كثير، استيقظت في العتمة لأبكي فلم أستطع ثم عدت للنوم.
مذ بصمت على كل شيء ولم يعودوا يأخذونني خارج السجن، صرت أنام أكثر. بعد سنة كنت قد سمعت قصص كل من في العنبر بروايات مختلفة وحكايات السجانات أيضا، بعد ثلاث انعزلت وتورمت، آكل كل ما يعطونني وما يبقى بعد أن تنهض الأخريات، كنت الحمار الذي نزعوه من مداره، أدور في الحجرة وتعيقني الأسرة والزوايا.
السجينة التي أخذتني من جلسة الحفظ قررت أن تعلمني القراءة. كانت قد عادت من الانفرادي بعد أن تشادت مع سجّانة، بدأت تعلمني كل يوم، تمر بنا البنات ويضحكن، قالت إحداهن حين سمعتني أجمع وأطرح: أعوذ بالله من علم لا ينفع، تحسبن تجارتكن خارج السجن أو ذنوبكن؟!
تمر السجانات فيقفن على رؤوسنا لحظات ثم يذهبن.
الشامية التي انضمت لعنبرنا مخلوقة من طينة أرض أخرى، لونها ولهجتها وصوتها، تقلد البنات كل حركاتها، ولم يتقن أحد ضحكتها.
كلما قعدت معنا توقف الدرس وطردتها صاحبتي: هي لا تريد أن تتعلم، وأنا أعرف من بعثها لتتجسس علي.
الشامية ابنة العشرين تبدو طفلة وهي تأكل، أو تلعب، لكنها حين تتحدث في شؤون قلبها لا تجاريها القوادات وفتياتهن.
القوادة التي تتصدر مجلس عنبرنا جاءت منقولة من الشمال، نسوها سنوات ثم بدأوا يأخذونها للمحكمة. قبل أيام حكموا عليها، وسمعتها تقسم ألا تسمح بأن يجلدوها الألف جلدة المقررة. سيكونون قد غيبوني تحت الأرض قبل أن يحمرّ قفاها ولا تقدر على التربع بيننا.
جيء بي للسجن بعد حادثة هرب الحبشيات بشهرين، كانت السجينات يقلن لي إن كل ما أراه جديد وزائل؛ السجانات اللاتي يسرن فاردات صدورهن قابضات على عصي غليظة، أصواتهن الجشة وكلماتهن القليلة، رائحة عرقهن التي تفوح بسرعة إن اقتربت منهن مسجونة.
قالت سجينة قديمة: أيام ويعدن لعاداتهن.
بعد أسبوع خفت الأقفال على العنابر، وقلت جولات السجانات، خلال أسبوعين غابت بعض العصي، ولانت وجوه بعضهن، بعد شهرين خمدت ذكرى الحادثة. في بلدتي كان لي قبل أن أتزوج عادة واحدة، حياتي نهار واحد ينقضي ليبدأ من جديد. أزداد فيه إتقانا للمطلوب مني وتتضاعف مهامي.
كنت إذا لم أشغّل ماكينة الماء من محاولة واحدة يصرخ أبي: لا تخرّبيها يا بهيمة. أخبرت جارتنا التي امتدحتني مرة أن أبي يقول إني بهيمة، قالت: بهيمة حسنة التدريب.. ليتني آخذك بنتاً لي..” لا كلمة ولا علمة ولا تشبع الأرض من قعدتك”
كان لها سبعة أولاد وليس لها بنات، وزوجها غائب دائما، كانت عليها أن تعمل ما أقوم به في بيتنا: قبل أن تزول نجمة الصبح أكون قد عدّلت مجرى الماء بين النخيل حسب جدول ريها الأسبوعي، وأراها تسقي نخيلهم، أرصص الحطب في وجار مجلسنا وأشعل بعضه ثم أرى خيط دخان وجارها، وكنت أنهي عملي قبلها مع إن بهمها أقل.
مع أذان الفجر أشغّل الماكينة ثم أحلب النياق حتى أتأكد أن الرجال قد صلوا. أصلي ثم أكمل حلب البقر والماعز، أجهز القهوة وأغطي حليب البقر ليختمر، ثم أخرج حليب الأمس لأمخضه. ألصق العجين في التنور، فإذا شممت رائحة نضجه أخرجته لأضعه أمامهم، ثم أعود لآخذ رأس رغيف بين أسناني وأجري لأغير مجرى الماء.
الأخطاء التي أرتكبها تكلفني قرصات يحمر منها جلدي ويخضرّ ثم يزرق على مهل لأيام عديدة تالية.
بعد أن ارتديت المقنعة وزوجوني استبدلت أمي الكثير من القرصات بالنعوت التي تطلقها في ساقتي: الدابة السليمة.. البقرة.. لا نفع ولا شفع.
رفيقة السجن شرحت الشفع، ثم ضحكت: تموتين فيكافئ الله أمك.
هي معلمة دين وتسمي نفسها الكافرة، قالت لي إنه سر بيننا، ولم أخبر به أحداً حتى بعد أن راحت.
الداعية التي كانت تلقي علينا دروساً كانت تنفرد بها بعد كل درس، رجعت مرة من هذا الحديث الخاص ووجهها أزرق وأزيز صدرها أعلى، قالت: بنت الحرام لا تعظني، هي تتهمني في قلب نصائحها، ولو نطقت بحرف سأجلب لنفسي مصيبة أخرى.
كل مرة تزورنا داعية تضيق أنفاس الكافرة، ولا تتعشى معنا، وتغضب حتى مني دون أن أقول شيئا.
عادت بعد جلسة وهي تبكي، أخذتني لمكان التشميس وطلبت مني ألا أتحرك، ثبتت وجهي براحتيها وحدقت في عيني، وقالت: أريد أن أرى وجهي مرة أخيرة، لم أر وجهي مذ دخلت السجن، لماذا يمنعون المرايا؟
كانت تبحلق فيّ حين غرقت عينها بمائها وعادت للعنبر، صعدت لسريرها وظلت فيه إلى الليل.
قعدت في فراشي ورجليها متدلية من السرير العلوي بلا حركة، دغدغت باطن قدمها ولم تتحرك، غلبني النوم وفي الصباح لم تنهض، كانت مقنعتي بيدها وكانت هي منكفئة على وجهها. لمستها فوجدتها باردة. ناديتها باسمها فلم ترد، اقتربت الشامية وصرخت: استدعي السجانات بسرعة.
أردت مقنعتي لأذهب لهن، اقتربت القوادة والشامية تنتفض وتنتحب. دفعتني: أما سمعت؟! نادي سجّانة!
سرت خطوتين ثم وقفت في الممر. عنقي عاري، وهواء التكييف يصفر عند أذنيّ. أرخيت ضفائري عليها فلم تغطها تماماً. عدت لها: مقنعتي..
نحتني بظهر يدها وركضت لباب العنبر. في لحظات اكتظ الممر والعنبر، حملت السجانات رفيقتي وقد غطينها ببطانية، كن يبتعدن وطرف مقنعتي يتدلى بين أرجلهن كأنه رشاء.
بكت البنات وبكيت. ذاك الأسبوع جاءت كبيرة السجانات وقَعَدت بيننا، قالت: السجن صعب لكنه فرصة للمرأة لتفكر فيما ارتكبته من أخطاء وتتوب فيغفر الله ذنوبها وترجع للحياة امرأة مختلفة.
سألتنا إن كنا نريد شيئاً أو نحتاج شيئاً، انتظرت البنات ليتحدثن كي أطلب مقنعتي. كانت رؤوسهن بين أرجلهن ويخططن بأصابعهن الأرض وبعضهن شدت ذيل ثوبها على أصابعها ثم غطت براحتها فمها وسكتت.
فيما كانت العسكرية تكلمنا كانت سجانات أخريات يركبن غلاية جديدة في المطبخ، ويعلمن صومالية كيف تشغلها، ثم فتحت السجانة الكبيرة كيسا معها وأخرجت علباً وأكياس صغيرة ملونة. من المطبخ جاء شاي الغلاية الجديدة، نشربه والسجانات يوزعون أكياسا بها قطع بسكويت مكسرات، ومعها عبوات ملونة.
قبلت السجينات العطايا ولم يفتحنها. الشامية انقضت على إحدى العلب وفتحها وهي ترفعها أمام أعين البقية، أدنتها من أنفها، شمت رائحتها وهي مغمضة العينين، ثم ابتسمت ابتسامة عريضة، غرفت بأصابعها من قلبها شيئا كالودك، دهنت به وجوهها ويديها. التفتت لي ووضعت منه على وجهي وعنقي، ثم ضحكت وهي قابضة على كفوفي وتلتفت في الباقيات: أحلف بالله إن يديها لم تدهن بكريم عمرها كله.
كانت كبيرة السجانات تنهض ولم يطلب منها أحد شيء، تبعتها السجانات وجف حلقي وصار قلبي يخبط ضلوعي بقوة حين فتحت فمي: أنا أريد.. أريد..
التفت لي الجميع فزادت الحرارة في صدغي والرعشة في أصابعي التي تلمع بالدهن، قالت القوادة: تريد طرحتها التي راحت مع المرحومة… ههههههه.. تريد أن تموت مستورة.
لم يضحك أحد، وأنا قلت: لا.. مقنعتي كنت أريدها قبل يومين لأني سأحتاجها إذا جاء أخي للزيارة.
أم خليل سحبت طرحة كانت تتعصب بها على رأسها ومدتني بها، قلّبتها بيدي وأنا أسمع إحدى البنات تهمس: أخوها لم يزرها من سنوات.
نظرت للسجانات وهن يدرن ظهورهن خارجات: ما كنت سأطلب المقنعة.. أريد مرآة.. أريد أن أرى وجهي.
راحت السجانات وأغلقن باب العنبر، انقسمت السجينات بين الحجرة وساحة التشميس، وبقيت أنا وأكواب الشاي المصفوفة الباردة.

هل تود معرفة كل جديد ؟
يمكنك معرفة آحدث ما تم نشرة أول بأول , كل ما عليك هوا إضافة بريدك الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *