صباح كل خميس أستيقظ باكراً لأتذوق طعم الإجازة قبل أن يهب أهل الدار من مراقدهم ويتقمصوا أدوارهم في مسلسلنا العائلي ” عائلة فوق تنور ساخن “
الآن يؤدون جميعاً وصلة ” أهل الكهف”، وصلة طويلة وهذا من حسن حظي.
تناولت كوب حليب أعددته على عجلٍ. كل ما أستطيع أن أقوله عنه أنه لا يمت للحليب بصلة اللهم إلا لونه. كلما تجرعت كوبي الخميسي رغماً تنامى تقديري للنساء وقناعتي بحاجتنا الدائمة لهن.
ركبت سيارتي وذهبت لمحل قريب؛ لأبتاع صحيفتي المفضلة. البارحة فاز فريقنا في المباراة الختامية. أعرف أن الصحف قد أعدت مادتها وطبعتها قبل المباراة وهذا بالضبط ما أريده. أحب قراءة توقعات الكتاب حول سير المباراة ونتيجتها. أجد تسلية في مطابقة كلماتهم الرنانة والواثقة بما رأيته في المباراة.
تأبطت صحيفتي وعدت للسيارة منطلقاًبها صوب المقهى. لما تبوأت مقعدي فيه اندست أصابعي في أحشائها فتحتها على صفحة الرياضة. تتبعت عناوين المقالات ليس فيها ما يستحق القراءة . قلّبت بقية الصفحات . في صفحة المحليات طالعني نعي منزوٍ في طرفها. شد انتباهي صغر مساحته: ” إذن ما كان المتوفى غنياً ” هكذا قررت.
تتبعت الكلمات ” المغفور له – بإذن الله – مسفر الحمد” يا إلهي هذا اسمي! متى مُت؟! لم لم يخبرني أحد؟! ألهذا طالت رقدة أهلي اليوم؟! أأحزنهم موتي؟! ما كان هذا ظني فيهم.
أشعر بالسعادة! لكن ربما يجب أن أحزن بل وأن أبكي أيضاً.
سابقاً كنت أقف أمام جلال الموت مبعثراً لا أملك دمعتين أريقهما إرضاء لمن حولي وكنت أحس بأني قد أفعلها لو كان المتوفى قريبا لي ومني.
اليوم هوت حجتي، لكني حزين لسبب آخر فأنا في حياتي القصيرة لم أفعل كل ما أريده، حتى فوز فريقي المفضل لن أستطيع الاحتفال به مع أيٍّ كان.
قلت لنفسي: لم كل هذا الحزن؟! أنا ميت إذن أنا حُر؛ أستطيع أن أفعل كل ما لم أتمكن من فعله في حياتي لكن بم أبدأ؟
أولاً اسمي “مسفر ” إني أكرهه لأنه ليس اسمي بل اسم جدي كوى به جبيني حين قبّلني أول مرة.
لذا سأغيره سأنتقي لنفسي اسما جميلا ليكن سعيد.. هذا اسم يناسبني الآن لأني حقا سعيد وإن أحزنني أمر فيما بعد فسأجد فيه كل العزاء.
أرعبتني كلمة العزاء . ساعتي تشير إلى العاشرة لابد أن مراسم العزاء بدأت بعد أن شيعوا جنازتي.
عند هذا الخاطر توقفت طويلا حتى كدت أبكي ، بعدها أخذت نفساً عميقاً وقلت بإصرار: أنا الآن إنسان جديد ويجب أن أنظر للأمر من هذه الناحية فقط وعلي أن أهتم بالخطوة التالية ولتكن اسم العائلة، سأغيره لأنه ثقيل جدا وقد أتعبني حمله في حياتي السابقة.
قابت قوائم أسماء العائلات التي أعرفها بعضها ثقيل كاسم عائلتي، وبعضها خفيف جدا، بعضها شرس ( وكلها لا تعجبني )
ثم كيف أتخلص من ربقة اسم لأقع في شراك آخر؟!
أنا لا أحتاج سوى اسمي ( سعيد فقط ) هذا كل ما يلزمني لبدء حياة جديدة.
خرجت من المطعم، ركبت سيارتي فتهادت بي في شارع جميل. سيارتي الحبيبة لكأنما استشعرت سعادتي فاختارته لي. وليتم إحساسي بروعة محيطي قلّبت أشرطة الكاسيت لأستمع لأحدها فاكتشفت أمراً خطيراً؛ كل المغنين المطبوعة أسماؤهم على الأشرطة لا أحبهم !
أصدقائي كانوا يستمعون لهم فسمعتهم بل وأطربوني!
توقفت بسرعة، كادت سيارة خلفي أن تصطدم بي. تفاداني سائقها وابتعد شاتماً من علمني القيادة. لن أرد عليه طالما أني لست المقصود بسبابه. في الحاوية القذرة قرب إشارة المرور ألقيت كل الأشرطة وعدت لسيارتي. دسست يدي تحت مقعدي ثم وجهتها يمينا وشمالا حتى اصطدته، كان شريطا أسود قديما اشتريته في سني مراهقتي الأولى . ألقمته آلة التسجيل فما ضلت كلماته طريقها صوب أعماقي. زفرت براحة وواصلت سيري على مهل تسلمني أعطاف شارع لأحضان آخر.
نظرت للساعة فوجدتها الحادية عشرة والنصف، تساءلت : ماذا يفعل أهلي الآن؟ بعدها ضربت بكفي جبيني. هذه هي الخطوة الثالثة في دربي الجديد، كيف لم أفعلها؟! هذه الساعة اللعينة لن ترافقني بعد اليوم لأنها تذكرني بارتباطات تحللت منها بعرف الجميع ( أما أعلنوا موتي ) خلعتها وخبأتها تحت المقعد، قلت : ابقي هنا. من يدري قد أحتاجك في وقت آخر.. ربما في حياة جديدة.
لما وصلت منزلنا وجدت حوله سيارات كثيرة. المعزون لم يخرجوا بعد، همٌّ فوق حزن. إنهم يثقلون على أهلي.
خطرت لي فكرة فعدت أقلب صفحات الجريدة. استقرت أنظاري على النعي المنشور، قلت : قد لا أكون المنعي! ربما يكون الأمر مجرد تشابه أسماء.
أكملت القراءة لا رقم هاتف ولا عنوان مفصّل. إذن قد لا أكون المتوفى. أأدخل المنزل لأتأكد من صحة الخبر؟ لكني قد أصدمهم للمرة الثانية؛ مرة بموتي وأخرى بحياتي وربما يكونون قد رتبوا أمورهم على وفاتي، وبالنسبة لي حياتي الآن أسعد.
فقط هذا الشك يؤرقني. لا بد أن أتأكد من خبر وفاتي. اتجهت لكابينة الهاتف على ناصية الشارع. اتصلت بالجريدة التي نشرت نعيي. كلمت المشرف على الصفحة، جاءني صوته مستعجلا: نعم .
– أريد أن أسأل عن خبر منشور بصفحتكم اليوم.
– …. ( صمته أربكني )
– أقصد خبر وفاة مسفر.. مسفر الحمد.
– ما بال الخبر؟
– أهو أكيد؟
– ماذا؟!
قلت: أكيد .. أقصد يمكن أهل المتوفى يتصلون مرة ثانية ليكرروا نشر النعي، لذا أرجو أن تبلغهم تعازيّ الحارة.
تعالت ضحكاته، قال: على أمرك يالشيخ، لكن من نقول لهم؟!
قلت له وعبرة كبيرة تتكور بحلقي: واحد.. قل لهم واحد.
١٩٩٦م
من مجموعتي القصصية ” وحدي في البيت “
ارسال کامنت با 12 لینک بالا- کامنت نهایی
السلام عليكم.
مفيدة وشاملة، بارك الله فيك.
مدونة مليئة بالمعرفة. جزاك الله خير. انا احبك جدا، جدا، جدا.
شكرا لكم.
مصعب النجار.