قد يكون الفشل عند البعض مطبات في طريق النجاح، عني وفي أحيان كثيرة أظن الفشل رسالة المجتمع للنافر فيَّ ليتهذب فيصبح في المقاس المناسب لغول المدنية، وهو بهذا لا يقل إيلامًا عن فكرة المطبات، فالمجتمع وهو يقلم أظافري في أحايين كثيرة يقصص أطراف أصابعي بقصد أو دونه، في الوقت الذي أظن أنني أحتاج إلى أظافري أخربش بها حيطان ذاكرتهم ما يدل على مروري بالمكان.
لكم أنتم سأبدأ بآخر فشل واجهته؛ فقد حسبت أن البوح بما فشلت فيه أسهل من كتابة عن النجاح لسببين: أننا تربينا على تواضع سامج يجعلنا نجد صعوبة في الثناء على أنفسنا ونستشعر وخز الضمير قبل أن نبدأ التقريظ.
والثاني أني بارعة في النقد (الانتقاد) وقد تذكرت أن أول ما فتح الله به علي في مشوار الكتابة كانت قصيدة على نسق:
« ألا أبلغ لديك أبا دلامة
فلست من الكرام ولا كرامة»
وكانت كلامًا موزونًا مقفى نلت فيه من ذاتي وما أسلمت أحدًا من أهلي.
المأزق الأخلاقي لو شئت نبش الماضي والحاضر لأختط قائمة بما خابت فيه مساعي حتى اليوم، أني إن حكيت عما فشلت في تحقيقه واتضح أن كل الخير في البعد عنه فقد لمعت نفسي، وإن حكيت عما فشلت فيه فتعلمت منه درسًا بررت لنفسي، وإن حكيت عما فشلت فيه واستبان عن خلل فيَّ أحرجت نفسي.
وعلى كل حال لن تكون القائمة دقيقة، فما أحسبه فشلًا فترة من عمري قد يكون هو ما صنع تفردي كإنسان، كما أن سأسكت عما ستره الله من فشل فما اطلع عليه أحد، وسأوسع الصفحات لبعض فشل كان إشارة ربانية لأعدل المسير.
بين بيتنا الطيني ونخل أخوالي بيد أقبض على معصم أصغر إخوتي أجره ، والأخرى في جيبي تقبض على المصاقيل بتوق .
أذن تسمع بشكل غامض عبارة أمي الدائبة : إذا جئنا أهلي سلمي عليهم ” زين ” والأخرى تتحسس أصوات الرفاق لأعرف أي جهات النخل أيمم إن وصلنا .
مع انعطافة كتف آخر بيت في الحي أشم ريح النخل وأنسى كلمات أمي ، أقفز الجداول فأسعد وتتحسر هي .
أظن هذه اللقطة المألوفة تمثل أول فشل عرفته طفلة ؛ نيل استحسان المجتمع وقبوله .
حاولت أمي : حكت ، قرصتني ، مدحت شقيقاتي لتثير غيرتي وظل اللعب قبلتي حيثما حللت ، لا أقايض به رضا الكبار ، ولا أمر برؤوسهم أقبلها إلا ما يصادفني وأنا عائدة لبيتنا ، أسلم على من وجدته في دربي ، ولا أجتهد في البحث عن أحد .
هو فشل اجتماعي مركب كما ترون : فشل انتماء لعالم الفتيات المهذبات في زمني ، ولسوء حظي فقد كان عمر الطفولة في زمني أقصر من أن يشبع انطلاقي .
وكبر جسدي قليلاً ففشلت في التكيف مع السلطة ورموزها ، وفشلت في التقيد بالتعليمات كما هي .
العاقبة الموجعة أكثر كانت تعليقات الأخوال والأعمام متى مررت بحافة مجلسهم ، وسخريتهم من “الغافلة” وصمت أمي العاجز عن الدفاع عني .
قد يكون الفشل عند البعض مطبات في طريق النجاح ، عني وفي أحيان كثيرة أظن الفشل رسالة المجتمع للنافر فيَّ ليتهذب فيصبح في المقاس المناسب لغول المدنية ، وهو بهذا لا يقل إيلاماً عن فكرة المطبات ، فالمجتمع وهو يقلم أظافري في أحايين كثيرة يقصص أطراف أصابعي بقصد أو دونه ، في الوقت الذي أظن أنني أحتاج أظافري أخربش بها حيطان ذاكرتهم ما يدل على مروري بالمكان .
لكم أنتم سأبدأ بآخر فشل واجهته ؛ فقد حسبت أن البوح بما فشلت فيه أسهل من كتابة عن النجاح لسببين : أننا تربينا على تواضع سامج يجعلنا نجد صعوبة في الثناء على أنفسنا ونستشعر وخز الضمير قبل أن نبدأ التقريض .
والثاني أني بارعة في النقد ( الانتقاد ) وقد تذكرت أن أول ما فتح الله به علي في مشوار الكتابة كانت قصيدة على نسق : ” ألا أبلغ لديك أبا دلامة *** فلست من الكرام ولا كرامة “
وكانت كلاماً موزوناً مقفى نلت فيه من ذاتي وما أسلمت أحداً من أهلي .
المأزق الأخلاقي لو شئت نبش الماضي والحاضر لأختط قائمة بما خابت فيه مساعي حتى اليوم ، أني إن حكيت عما فشلت في تحقيقه واتضح أن كل الخير في البعد عنه فقد لمعت نفسي ، وإن حكيت عما فشلت فيه فتعلمت منه درساً بررت لنفسي ، وإن حكيت عما فشلت فيه واستبان عن خلل فيَّ أحرجت نفسي .
وعلى كل حال لن تكون القائمة دقيقة فما أحسبه فشلاً فترة من عمري قد يكون هو ما صنع تفردي كإنسان ، كما أن سأسكت عما ستره الله من فشل فما اطلع عليه أحد ، وسأوسع الصفحات لبعض فشل كان إشارة ربانية لأعدل المسير .
أول فشل اعترفت به لكم فشلي أن أمثل- بين صويحباتها – ما يرضي أمي ، وكنت ابنتها الأولى ومعمل تجاربها التربوية رغم بساطة الأدوات التي امتلكتها في ذاك الزمان ، فكان الوضع صعباً عليها صعباً علي ، وقد جعلته أنا أصعب
فقد رزقت وعياً حاداً ومبكراً بمأزقها فرأيت أن ضريبة فشلي قد دفعتها حين سخروا مني فلا مبرر لأجتهد بأن أقول ما ينتظر مني وأستجيب بما يتوقع .
قلت وربما لم يكن فشلاً ، ربما كان خللاً في الجينات عذري فيه كعذر شقيقتي الثالثة التي ما قدرت أن تأتي للدنيا في صورة ولد لترفع أمي درجات في سلم نساء الحارة .
ثاني فشل واجهني حين أسلمتني أمي لعتبة بناء طيني في طرف حارتنا وراحت .
لا أتكلم عن فضائه المكتظ بالبنات والذي كان ساحات تدريب يومي على فنون الدفاع عن النفس فذاك سيكشف ندوب جمجمتي وما ستره الشعر من علامات جبني عن المواجهة أحياناً.
أتحدث عن فكي المرتعش بهمهمات غير مفهومة حين تطالبني المعلمات معلمة بعد أخرى أن أنطق ما حفظت نصاً متراص الحروف ، ولا حرية لي إن تاهت كلمة بأن أبدلها بأخرى تقوم مقامها ، ولا أن أقفز عليها لتاليتها .
هذا فشل معتاد يدحرج اسمي سنة بعد سنة لآخر قوائم الناجحات في فصلي ، ويعرضني قبل أن يجود أبي بمكافأة التجاح لا ستجواب عن سر تدني درجاتي في مواد الدين والمواد الاجتماعية فيما أنا ” شاطرة ” في اللغة العربية والعلوم والرياضيات !
لم يتوقف أبي حتى بدأت أتحايل على ذاكرتي لأدس في تلافقيفها ما يشاءون وأبتهل أن تظل محتفظة به حتى أقرب اختبار.
عضلة الحفظ خاملة عندي منذ الولادة ، وهذا ما يفسر تبخر توصيات أمي إن عرض لي عارض من لعب ، لكن المدرسة بقرونها الشيطانية ظلت تقلم نوازع الفهم بداخلي وتسقي بشهاداتها بذور الحفظ حتى نجحت هي وترسب في داخلي شيء منها ؛ فالصغيرة التي لفظتها مغارة الابتدائية بترتيب الثامنة عشرة على مجموعة من ثلاث وعشرين طالبة في الصف السادس صارت الأولى على دفعتها في الكلية .
لكني انتقمت بأثر رجعي بعد التدريس فجعلت هدفي شطراً من التدريس أن أقتل ملكة الحفظ في نفوس طالباتي وأشغلهن بعشرات المرادفات لكل كلمة نمر بها في قصيدة أو خطبة ، مرعبة خمول أذهان بعضهن وأنا أسأل : وماذا يمكن أن يعني أيضاً ؟ انسين الكتاب وما فيه وفكرن ، وبعضهن يرتعش فكها وهي تردد ” اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً ، فاجعل بين يدي سداً ومن خلفي سداً حتى لا تطالبني هذه بما لا أستطيع .
هي خصوصيتنا التي ربطت أدعية الكرب باختبارات المدرسة ، وما دمنا بين الدعاء والخصوصية سأبوح بفشل آخر ، فما “اسطعت” أن أكون مطوعة ، أتحمس كل عقد من الزمان مرة ، ثم يفلح من يحتكر الدين في جعلي أهرب ، كلما لزمت المصلى أنبتت لي جدرانه أخوات غصباً عني ، يلازمنني ويحصين حسناتي .
أتحمس ثم أتورط ، تستبشر بي جموع وأنا أستر أصابع يدي ورجلي ، وتراودني على أن ألقي محاضرات أظن الهدف منها تأليف قلبي أنا .
أصعب ما في الردة عن ” الأخوات” ذلك الجهد المحموم الذي يبذلنه لإرجاع من صبأ ، فأتلقى رسائل مبطنة تستيبني وأفرغ حقيبتي كلما غبت عنها لحظة من أشرطة وكتيبات الهداية تدس لي لأرعوي.
آخر شريط أخرجته وسط محاضرة بالفرقة الرابعة في الكلية عن حاضر العالم الإسلامي وصراعاته ، وأنظمة الاستبداد فيه وأذرعها السياسية والدينية لخلق الأمة المنشودة ، وقررت أن أهم ما أريده من التدين أن أؤمن ب”لكم دينكم ولي دين ” ، فلا يزعجني من اختار لنفسه درباً صوب الله غير ما أظن ، ولا يجرمني شنآن قوم على أن ألزم حد الاحترام حين يمارسون حقهم في قول ما يعتقدون ، وإن حشوا الواتساب عندي بنصائح مباشرة أو غير مباشرة ، وفشلي في هذا ألقاه كلما عملت”بلوك ” لأحدهم .
فشل آخر لازمني عمري السالف ( أن أسكت حين يكون السكوت سلامة) وذاك جزء من الفشل الاجتماعي وجزء من تمردي ، أتذكر الآن العديد من المواقف وأسأل لماذا كان صعباً أن أغلق فمي ، يالشهوة الكلام كم كانت فاتورتها فادحة . أول لطمة إسكات موجع في التعليم كان ” صفراً ” مكعب وأحمر ممهورة به ورقة اختبار شهري في مادة شكوت أستاذتها عند مديرة مدرستي الثانوية بأنها لا تعلمنا كما ينبغي فكان علي أن أبلع حمرته الموجعة ، وأستاذتي – سامحها الله – ترفعها أمام كل الأعين درساً لكل لسان طويل بأن لا يطرق باب المديرة .
في ذات المدرسة وأنا معلمة كانت أشد الزميلات بي حفاوة تغمز لي كلما انبريت على قهوتنا الصباحية أسجل حضور لساني علنياً في قضايانا الدائمة ، وكنت أبلع بعد مرارة القهوة ما أستحق فإن دنا من لساني من حمى تديننا السعودي لحقني من مجلسي لحصتي شهاب ثاقب يصمني بما يصمني ، وحكيي عن إدارة التعليم يبعدني عن منصات التكريم كل عام.
كان يجب أن أسكت ، وما عرفت ، لكني حين تقاعدت تأملت كل ما ورائي فلم أجد لكلامي أثراً في السامعات يذكر ، وبدات على كبر أتعلم ألا أجود برأيي حين لا يريد مجالسي أن يسمعه ، بدأت وما زلت أفشل في ذلك مرات .
من تلك الفترة خرجت بملف عجيب تتجاور فيه شهادات التقدير مع الإنذارات والتعهدات ومحاضر التحقيق ، فقد كان القوم معي يراوحون بين الترغيب والترهيب حتى رغبت عنهم .
وبقي الحكي مخبوءاً ويوجعني في حلقي حتى نفّس عني “تويتر ” أطال الله بقاءه ، وعدت للكتابة في الصحف أقول فيها بعض ما أريد .
والصحف أوقفتني على فشل طارف وتليد هو فشلي مع الرقابة ، وهذا فشل لا ألوم نفسي عليه فرقيبنا كما يبدو لديه سقف عجيب لا هو بالمسطح ولا بالمقوس ، ولا يحافظ على ذات الارتفاع كل كتابة ، أكتب مرة فيشاد بي ما قلت وقد حسبته لا يمر ، وأكتب مرة فتجرى عمليات شفط دهون سريعة وينحت جسد الكلام بعلمي أو دونه إن كان الخطب برأي الرقيب جللاً لا يسمح حتى بمساومتي فيه لأعدّل وأبدّل .
فشلي الذي لن أطيل الحديث فيه هو فشلي مع الزواج ، فشلت ولمت نفسي زمناً ، ثم لمت الآخر ، تبنيت قضايا النساء ولمت لمت مؤسسة الزواج السعودي كلها على نظام ” اكشط واربح ” الذي كان بالنسبة لي ” اكشط واخسر “
ولا أعرف إن كنت بعد حين سأفهم هذا الفشل فهماً مختلفاً ، اليوم سألفظه بحرقته وكفى .
الفشل الأكبر هو في أن أختار بين أن أجعل هدفي أن يفهمني العالم ، فأنزوي وأكتبه وأكتبني ، أو أجعل هدفي أن يقبلني، وتكلفة التوافق لا أريد دفعها ولا أثق بنتيجتها.
” وكيف ائتلافك والقوم عاد
وأنت على كل بأس بواد
تنازعك الموبقات به
فيغنم إثر النواع اختلافك “
الفشل أحياناً طقس عبور لأكون أنا بأقرب صورة ممكنة لما أرغب وبأقل إضرار بمن حولي ، أسوأ أشكاله هي ما ستره الله فلا أفضحه ، وأصعبه ما يتعامى عنه أحبائي وهم يزنونني فيطففون سوءاتي ويرفعون ما يتوهمونه حسناً .
مجلة المعرفة