تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » مكتبة سوق الكباري

مكتبة سوق الكباري

 

عائدة من لندن، المدينة التي لو كانت كتابا لوجب أن تكون ألف ليلة وليلة، أو كتاب الرمل لبورخيس. لا شيء في المدينة عادي، ولا يتكرر فيها مشهد مرتين.

وصلت المدينة أذّكر نفسي بوعد قطعته بكتابة مقال عن القراءة.. وكلما ذكرت الوعد خطرت ببالي أبيات شعر كنت أدرّسها لطالبات الصف الثالث الثانوي في مادة البلاغة والنقد.

الأبيات للمتنبي لم تكن في أحب قصائده لقلبي، لكنها غدت نصيب طالباتي من شعره تلك السنة.

يطري بيته الأول مغاني شِعب بوان، وهو شِعب جميل في بلاد فارس قريبا من شيراز، وسيصفه في أبيات لن تدرسها طالباتي بأوصاف حية:

” غدونا تنفض الأغصان فيها على أعرافها مثل الجُمان

فسرت وقد حجبن الحر عنّي وجئن من الضياء بما كفاني

وألقى الشرق منها في ثيابي دنانيرا تفر من البنان ”

المتنبي الفنان يرسم لوحة لن أجد مثلها لدى رينوار أو مونيه؛ صورة الأرض المنخفظة بين الجبال، حيث يصطف شجر” قطوفه دانية” ليظلل دروبها. يعبرها السائرون فينثال الضوء بين أغصانه المتشابكة على ثيابهم دنانير لا تنفد ويستحيل جمعها.

لوغامرت فدرّست البنات ما لم يحوه الدرس من أبيات.. لوغامرت أكثر فطلبت منهن السير في غابات نخيل البلدة المتشابكة صباحا. الإصغاء لحفيف السعف، تتبع خيوط النور الأولى تتراقص وهي تتخلله لتدفئ التربة الندية..

لم أفعل شيئًا من ذلك، كنت وقتها من المطففين؛ أُعلي قيمة ما ليس محليّا وأبخس ما حولي قدره.

وكي لا أبدو وحيدة في خطيئتي سأقحم ابن واحات صحراوية أخرى معي.. لا أذكر أين قرأت أو سمعت في أحد حوارات إبراهيم الكوني كلاما عن أنه لم يقدّر الصحراء الكبرى حتى رآها بعيون مستشرقين ورحالة غربيين.

نعود للمتنبي، كان نصيب الدرس البيت الأول الذي ذكرته والذي سيستدرك بعده:

” ولكن الفتى العربي فيها

غريب الوجه واليد واللسان”

كنت أستقطر الكلمات والأفكار من ألسنة طالباتي، نشرح غرابة الوجه واللسان وهي بدهية، ثم أقفز بهن لموضوع آخر متجاهلة غرابة اليد التي لم أفهمها.

يريني السفر – بعشرات الطرق ومئات التجارب – كيف أتزيا بزي بلاد أزورها وأستعير لسانها ثم تفضحني يدي.. يتحداني باب أو نظام تدفئة أو بطاقة صعود حافلة.. تهزمني الأشياء. تخبرني أنني لا أنتمي.

في السفر أحاول أن أكون الطفلة اللا مرئية التي وصفتها إيزابيل الليندي في إحدى رواياتها ( ابنة الحظ ربما ).. وإن كانت طفلة إيزابيل تتخفى فرارًا من رقابة أسرة عريقة التقاليد لتوسع مساحات لعبها وتقلل فرص انتقادها، فهدفي الانطلاق في الاتجاه المعاكس، أن ألتصق حتى لا يلفت اختلافي الأنظار.

أفر ببؤس العالم الثالث في حقيبتي لأفهم من قلب الغرب ما يجعلهم هم ويجعلنا نحن..

عند أي خطأ تقترفه يدي يهمس إدوارد سعيد في أذني بتعليق من تأملاته في المنفى ليثبت لي أني ابنة أرض أحملها بداخلي حيثما حللت وأن الفشل مصير محاولاتي الانتماء لعالم يختلف عني وجهًا ولسانًا ويدًا.

يجب أن تكون هذه مقالة عن القراءة وقد أتخمتها بالحكي عن السفر.. لن أعتذر فكل كتاب أفتحه رحلة بزادها وحقائبها وتأشيرات عبورها، بتوقعات مسبقة وبمفاجآت أو خيبات. كل كتاب رحلة لأمكنة وأزمنة جديدة، يأسرني فيها أول لحظة صوت الكاتب وهو يوجه كلامه لي وحدي ومنتهى أمله أن أظل معه حتى يختم حديثه.

أستطيع أن أردد مع ديكارت ” رحلة القراءة مصاحبة لأرقى الناس في عصور ماضية ” وهي بالفعل رحلة سحرية تأخذني لأزمان لا تستطيع الطائرات وصولها، بيد أني سأحرج نفسي فأستشهد هنا بدكتور سوس: ” كلما قرأت، كلما زادت الأشياء التي ستعرفها، وكلما تعلمت أكثر، زادت الأماكن التي ستذهب إليها”

سأتحدث عن الكتب التي أذهب إليها. بالطبع لن أتطرق للكتب الهزيلة ( تلك التي لا يستطيع قارئ تفادي الاصطدام بها)، ولن أكتب عن الكتب الجيدة التي فتحتها قبل أن أملك أدوات مواجهتها فذاك من سوء حظي أو قلة اجتهادي لكنه – أبدًا – ليس ذنبها.

أود الكتابة عن رحلات قراءة كانت سفرًا جاء في وقته. عن كتب تغدو متكأ وثيرا في ركن هادئ في عقل صاحبها يطلعني فيها على كنوزه بلا زهو.. عن كتب تخطفني بلا اسئذان، تدكّ أصنام عقلي.. يتتتني ثم تلم شتاتي أو لا تفعل.

قبل رحلتي القصيرة قرأت ترجمة الصديق راضي النماصي لقصة لنه دنه “حامل الكتب”

قصة مربكة مثل ركلة غير متوقعة في الساق. يذكر القاص صراحة العائد الأوضح على من يتأبطون الكتب؛ الاحترام الفوري غير المشروط الذي يسبغه الناس عليه. الفكرة الساذجة عن المثقفين أنهم أناس ” تعرفهم بسيماهم” وسيماهم هي عدد ما تحمله أيديهم من كتب أو ما تتمترس به صور مكتباتهم الشخصية من إصدارات.

ثمة اتفاق جمعي على تأثير صحبة الكتب يعتبرها ” كباقي الوشم في ظاهر اليد” بقدرتها على صقل العقول وتهذيب الأخلاق، وهذا إطلاق خطير يتلوه إهمال لا مبرر له من قبل المجتمعات في فحص إدعاءات المعرفة. الإدعاءات الرخيصة التي يتكسب من خلالها البعض ويكسبون.

الكاتب بقصته لا يسعى لفصم العرى بين اقتناء كتاب والاطلاع عليه، فسيفعل ذلك في السطر الأول، لكنه يترك لي محنة مواجهة أزمة يراها في مجتمعه الأمريكي وتعصف ببلادنا العربية: ما واجبنا تجاه ” النُخب الفارغة” التي تنال امتيازات لا تستحقها وتشوش صورة المثقف في محيطها؟

والكاتب لا يأمل الكثير، فحين تدمر كل البيوت يبقى أشدها هشاشة ( بيت بيير بوي ) مستثنى من الأضرار بكتبه العشرة آلاف التي لم تُقْرأ.

المأساة فيما أراه في وطني اليوم هو أن النخب الخاوية مزيج قبيح بين ” بيير بوي” و” دون كيشوت” فهم فارغون تماما وفي كل يوم لهم معركة، ويثخنون فيها.

من ناحية أخرى، تذكرني القصة بكثيرين ينفرون من الكتب، ولا يخجلهم الإعلان عن عزوفهم الأزلي عن القراءة. لا أفهم هؤلاء فأنا من ” أولئك الذين يتحسن مزاجهم تلقائيا عند رؤية كتاب”

وأكثر ما أفتقده اليوم هو الكتاب الذي أعد صفحاته بقلق من أن ينتهي، ” وكأني بنهايته سأخسر صديقًا” وأفتقد أكثر منه الكتاب الذي اقرؤه مسترخية وفجأة يورد عبارة تخلع ضلعًا، فأحتاج ثوانٍ لأتنفس مجددًا بشكل طبيعي.

في البلدة الصغيرة التي أعيش فيها لا يمكن أن أنسى أول كتاب غير مدرسي حطّ في كفيّ ذات صباح شتوي عام ٧٩م.

تغيبت أستاذة الصف يوما واستلمتنا أخرى أندم اليوم على عدم معرفتي لاسمها، فلها في القلب وردة لا تذبل. جاءت حاملة الكتب اللطيفة بما لم أعتده وبشكل عشوائي وزعت كتبًا نحيلة برسومات ملونة!

يا إلهي ! لم أعرف حتى تلك اللحظة بوجود نِعَمٍ كهذه. لم أكن محظوظة مثل سارتر فأولد بين الكتب، لكني مثله كدت أجن والأحرف المطبوعة تتحول في رأسي لأصوات حيوانات تتحاور*

تقلّب الزميلة عن يميني صفحات قصتها على عجل، وتدير التي عن يساري الكتاب لفحص غلافيه الأمامي والخلفي. يشحب لوني وأنا أتغلب على خجلي المريض وأسأل الأستاذة الغريبة: من أين أتيت بهذه؟

من ٧٩م إلى ٨٦م ظلت المكتبة حلما شاحب الأطياف يزور خيالاتي زيارات غير منتظمة. في المرحلة المتوسطة رافقت أمي مجددا للرياض.

العاصمة بطفولتي تعني المستشفيات، ولأمي تعني سوق الذهب. بعد المستشفى كنت أجر ساقي خلفها في سوق الكباري. بعد ثلاث أو أربع محلات فقد الذهب بريقه في عي،ني فانسلخت من ظل أمي. أغوص في أحشاء السوق الكبير، وأكتشف أنه يبيع أشياء كثيرة لا تلمع.. ثم يتوقف الزمن فجأة حين أجدني أمام ” المكتبة” عرفت لحظتها كيف سأصرف ريالاتي المتعرقة حصيلة مكافآت نجاحي الدراسي.

منذ تلك الرحلة صرت – مثل أمي – أعشق سوق الذهب ومثلها أصرف ما أجمعه طوال عام فيه، والضريبة الهينة كانت تأففها من الكتب التي لم تعرف لها أي فائدة.

بعد سنوات حين تنتقدني صديقات على صحبة الكتب أتطوع بشرح لا نفع فيه، فمن يعشق الكتب يعرف، وغير المحظوظين لا يغير مواقفهم تفسير.

القراءة تحررني من عبودية الرؤى الموروثة للوجود. يهبني كل مؤلف عظيم وجهة نظره فيما يراه.. عليّ فقط أن أتذكر دائما أنها آراؤهم لا الحقيقة خالصة، وعليّ أن أنتبه كيف يسوقون حججهم.

أتحدث هنا عن القراءة بشكل عام، فإن حكيت عن قراءة الشعر فالشعراء سحرة يعبثون باللغة وبقلوبنا.

أما جماعة السرد فعبثهم باللغة يتراجع لصالح نبشهم لطبقات الروح البشرية، ليقدموا نماذج حية أكثر من بعض البشر.

كنت معلمة أتفادى تكليف الطالبات في حصص التعبير بالكتابة عن الأم، لأنها لا تثمر إلا عن عبارات معلبة ” أمي حملتني تسعة أشهر وولدتني وأرضعتني وسهرت علي الليالي”

مثل طالبات المدارس يظن البعض أن الله قد خلق الأمهات من طينة واحدة ثم وزع نسخهن على البيوت. ويأتي الرواة فيعيدون الأم بشرًا سويا: “الأم ” عند مكسيم غوركي امرأة بسيطة تحب وحيدها ولا تفهم كفاحه، لكنها حين تخفيه السجون ستناضل بجانب رفاقه ليخرج. هذه الأم تختلف جذريًا عن التي رسمها ألبير كامو في الغريب، والتي سيصدمني منذ السطر الأول بخبر وفاتها يحكيه ابنها ميرسو بلا أي مشاعر لينتقل مباشرة لشأن آخر. أم بعيدة شاحبة لا صوت لها ولا أثر. سيحزنني حين أقرأ في سيرة الكاتب لاحقا كم تشبه أمه.

أما الأم في مائة عام من العزلة فهي عمود البيت وشجرته الظليلة المعمرة يموت الأبناء والأحفاد وهي قائمة وقلبها حي مثل كل غرائبيات ماكوندو.

لا يمكن أن يرى قارئ وعازف عن الكتب أميهما بنفس الطريقة، ولا يمكن أن يتحدث الثاني عن أمه بالعمق الذي لا تمنحه غير الكتب.

والقراءة سفر يوّسع الحياة، ويعدد ألوانها. القراءة أعمار تضاف لوجودي المحدود على الأرض. ألم يتمنى الإنسان ” لو يعمّر ألف سنة”؟

يتحقق ذلك جزئيًا للقارئ، لحظته الواحدة تتعدد؛ أنزل مترو الأنفاق فتتداعى صور العوالم السفلية للندن: ديڤيد كوبرفيلد، وأوليفر تويست.

أركب قطارًا فيتنازعني “جريمة في قطار الشرق السريع” و ” قطار الليل إلى لشبونة”

أخرج في محطة ميدان بيكاديللي فتلقاني منحوتة لأربعة خيول جامحة، وأتذكر الوصف العبقري لامرئ القيس:” مكرٍّ مفرٍّ مقبلً مدبرٍ معا”

كاد أسمع حمحمة الخيول، ثم أرى خلفها دارتنيان يتقدم فرسان أليكساندر دوما الثلاثة، بل وحتى حصان ألونسو كيخانو.. لم لا ففي عينيه على الأقل كان يبدو مثل هذه الخيول الأصيلة.

لعل هذه هي أعظم عطايا القراءة، فأشباح الكتب التي قرأناها ستظل قادرة دائما على انتزاعنا من اللحظة لنراها بشكل أفضل.

——————————–

· من مذكراته عن سنوات عمره العشر الأولى ” الكلمات ”

 

 

11 نوفمبر 2018

هل تود معرفة كل جديد ؟
يمكنك معرفة آحدث ما تم نشرة أول بأول , كل ما عليك هوا إضافة بريدك الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *