تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » للبيع، موت بسعر التكلفة

للبيع، موت بسعر التكلفة

قبل أن أموت بثانيتين استيقظت. في الحلم البارد الصامت يزحف الموت نحوي وأتراجع لأنزوي في حضن أمي، حتى في حجرها لم أشعر بأمان.

في مواجهته، أغمضت عيني واجتاحتني رغبة بأن أبكي كما لم أبك عمري كله.

ما أكمدني حين فتحت عيني – إضافة لصداع يشق رأسي من الأذن للأذن- جزعي في الحلم وأنا أحصي أحلامي التي لم أعشها بعد.

كان الموت يزحف باتجاهي في هيئة ظلمة خفيفة مصمتة، تنطبق الممرات المشؤومة التي يسير فيها من خلفه فتموت هي أيضا..

لم يكن ممكنا أن أهرب للأمام لو شئت، ولم أعتد أن يباغتني الموت وأنا نائمة. الخسيس!

**********

عزمت أن أصلي ركعتين وأوجست بأن الملائكة ستتردد في تقييدها لصالحي؛ فما غاية صلاتي إلا إزالة الآلام الكابوسية التي تسري تحت جلدي.

أنا عاجزة تماما عن وصف أثر الانسلاخ من أحلام الهلع على جسدي.. تشبه.. تشبه الأثر المترتب على رش مبيد حشري بين جلد ذبيحة حية ولحمها.. ربما هكذا يكون الإحساس.. أعني لست متأكدة..

**********

في الانتظار خابي الجذوة لنور الصبح أيقظت جوالي. بمزاج عكر امتشقت سبابتي أو إبهامي وأفنيت كثيرين أتابعهم في تطبيقات التواصل الاجتماعي. وبذات المزاج بعد ساعة نبهت مفاصل شقتي الغافية: فتحت الأبواب، أزحت الستائر، أشرعت النوافذ لما بقي من أصوات العصافير.

عدم ترتيب سريري صباحا التمرد الوحيد الذي أجرؤ على ارتكابه مؤخرًا.. خطيئة صغيرة في حق نفسي ولن يلاحظها غيري.. فأظن أني أفعلها في مأمن.

اليوم سحبت المخدة قليلا وتركتها تنسحل على الأرض ثم خرجت من الغرفة.

**********

لم أشأ أن أطيل البقاء في المطبخ، غطّست في كوب الشاي ورقتي نعناع وشريحة ليمون، وأكلت موزة وشريحة خبز نخالة وأنا واقفة.

جثمت في الصالة. لساعتين، عَبرة صغيرة تحاول أن تهبط لمعدتي وجدران المريء تلتصق ببعضها فتعيقها.

شغّلت التلفزيون، فيه برنامج عن مشروع “جبار” في أحد بلاد الله.

ثلاثة رجال داخل سور مبنى تحت الإنشاء، عيونهم على كتلة بُلك تهبط من السماء. سائق المُعدّة الثقيلة يؤرجح الكتلة مسترشدا بتوجيهات تأتيه بثلاث لغات من داخل السور.

صيحات من الداخل تتناوب وتتداخل لترشد الرجل في الخارج صوب البقعة المنشودة.

أغلقت التلفاز قبل أن تسحق صخرة سيزيف عظام أحدهم. أعرف أن ذلك لن يحدث ( سيزيلون هذه اللقطة عند منتجة الفيلم ) لكن ذلك لا يقنع دقات قلبي التي عادت تضطرب وأنفاسي التي تتسارع.

**********

أمس وصلتني رسالة إيداع الراتب، يسابقها كالعادة رسالة قرض البنك/ فاتورة الكهرباء/ الماء/ جوالي/ قسط الاشتراك بقنوات الكيبل التي لم أعد أفرق فيها بين قناة الكوميديا والأخبار، ولم تعد أي منهما تضحكني.

بعد لحظات، رن هاتفي. رقم غير مسجل.. لا أذكر في لعبتي السمجة مع نفسي إن كان الدور هذه المرة على إجابة الهاتف المجهول أو ignore it

⁃ ألو؟ نطقتها بتردد

⁃ صباح الخير!

فلأعترف أن مسار المكالمة تحدد تلك اللحظة نتيجة حسدي العظيم لصوتها الخالي من الكوابيس.

طلبت الغريبة مني أمرًا، ورفضت تلبيته لها بجفاف طفيف.

ستبحث في ذاكرة هاتفها عن غيري، وبحساب الوقت الذي استغرقته لتذكرني بنفسها أوقن أنني لم أكن ضمن محاولاتها العشر الأولى.

**********

توالت اتصالات أهلي، وتجاهلتها كالعادة برسالة مكررة ” مشغولة”

يرتبون جدول زيارات الواجب للأسبوع القادم، وأكره الجداول والزيارات، وتزعجني المراوحة السلسة بين تعزية في ميت وتهنئة بزواج، ويحرجني جسدي الذي – ورغم العباءة – لا يجيد البكاء على ميت ولا الابتهاج بمولود.

**********

ثبتُّ جوالي على وضع الطيران، وبحثت في بريدي الالكتروني عن رسائل لا تصل.

فتشت البريد الوارد، المزعج، الرسائل المحذوفة، ثم فتحت تطبيق حجوزات الفنادق.

بدأت بأمريكا فأوروبا الغربية، شرق آسيا، ثم اسطنبول.

فتشت عن “عروض مذهلة” وفنادق “ذات نظافة استثنائية” غيّرت مواعيد الحجز لأراقب موجات السعر ترتفع وتنخفض. قلّصت المدد لتتناسب مع ميزانيتي المتخيلة، ثم من باب شكر الله على فضله فتحت صور بيوت الشباب وفنادق النجمة الواحدة.

أخيرا اتجهت لعاصمتنا. فنادق الرياض مثل حبات الفقع في عز موسمها: تظهر فجأة، ضخمة، غير محددة النمط المعماري، وأسعارها مجنونة.

بالمناسبة، المرة الوحيدة التي ذقت فيها الفقع كرهت طعمه.

**********

نسيت أن أتغدى، وعندما بدأت معدتي تأكل نفسها أعددت قهوة عربية مع صحن تمر إخلاص.

التمر السكري أوڤر ريتيد، لكن القصمان ختموا على ذوق بلد كامل غشاوة لا نفاذ منها، حباته الكبيرة الليفية كليمون مجفف تذكرني بالسريّ ( الذي تبطّر عليه قومي فاستبدلوا به الإخلاص ونبت السيف)

بعد القهوة، وزنت نفسي، وعنفتها على ست مئة جرام ترتفع وتنخفض بين قياس وآخر ، ولا تدعني أقر في فئة الوزن المثالي.

**********

بعد العصر، هاتفتي صديقتي العزيزة. أجبتها قبل الرنة الثانية، خشيت أن تغلق الخط وترمي الهاتف بيد صغيرتها كالعادة.

هي صديقتي الوحيدة، ومع ذلك فقد بقيت أحاول الاتصال بها أو تحاول الاتصال بي من شهر ولا نجد بعضنا.

اشتكت لأول مرة من نوبات الفزع الليلية التي صارت تنتابها، ولم أحدثها عن متلازمة النفق الرسغي التي ربما أعاني منها ( قوقل لم يكن متأكدًا جدا، ولم أخبر أطباء هاتف وزارة الصحة بشكواي هذه بعد) لكني ألمحت لها عن كوابيسي.

بعد لحظة صمت، وبما يشبه خضخضة ذكرى آسنة أشارت صاحبتي أننا لا نزال تحت السن القانوني لتبادل الشكاوى الصحية لأكثر من ثلث المكالمة.

**********

في الليل تلكأت في الذهاب لفراشي، وحين أسلمته جنبي أخيرا بقيت أقلب في الجوال بحثا عن مقاطع ساخرة.

لم أفهم أن النعاس غشاني حتى هوى الجوال على وجهي. أقفلته وسحبت اللحاف حتى أذني.

٦ مارس ٢٠٢٠

هل تود معرفة كل جديد ؟
يمكنك معرفة آحدث ما تم نشرة أول بأول , كل ما عليك هوا إضافة بريدك الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *