ماتت مزنة، شرقت بحليب رضٓاعة وماتت..
هذا تفصيل ثانوي سيحذف من سيرتها بعد مدة، حتى هي كانت لتغضب لو حدست أنه سيكون الخاتمة، أو ربما كانت لتضحك لو رزقها الله مزاجا أخف.
مع جِرمها الضئيل، كفنوا حزنهم المنهوك ودفنوها، طمأنوا بعضهم بأن ما واجهته تطهير، و أن برهم بها منزهٌ عن الشك..
عندما كانت مزنة أكبر سنا (في أواسط خمسيناتها) علقت في مرحلة تكدست ثوراتها في صدرها وأثقلته..
للحق، كانت لا تزال تغضب فتخيف، لكن زئيرها بات يستهلك جهدا أكبر ويرعب جمهورًا أقل..
ذات ليلة جافاها النوم، ظلت تحرث صدرها بفكرة أن أحباءها أطاحوا بها أخيرا.
قضت الليلة تطلق لعنات عشوائية وتبلع الغصص.
منتصف الليل أطل في وجهها عزارئيل، لكن مزنة لم تكن قانطة لهذا الحد؛ بإمكانها – إن أمد الله عمرها– أن تعيش عشرين سنة أخرى، وهي تريد العشرين وأكثر، لكنها لن تمضيها مفعولا بها.. ستموت بشكل يرضيها ويوجعهم.
قبل الفجر كانت قد قلّبت سير الراحلين، استعرضت طرق الموت الحلال: الضغط/الجلطات/ القسطرة/ تغيير الصمامات أو حتى السكر لا تناسبها.. ستحرم وهي حية من لذائذ متنوعة، وسيكون هناك دم، والدم يصيبها بالغثيان.
بلا تردد شطبت السرطانات بأنواعها؛ لن تسمح لعيال الكلب أن يروها صلعاء واهنة.
مع طلوع الشمس غفت دون أن تستقر على ميتة مناسبة.
ظاهريا، بدا ذاك الصباحٍ عاديا جدا، أفطرت، صلّت الضحى، وسارت على وعد لبيت صاحبتها.
في الطريق تذكرت مزنة نصائح الصبر وقبول المشيئة التي ستمطرها بها الرفيقة..
⁃ الملعونة! ومن أصبر مني على واقع مقلوب؟! كنت لهم الأم والأب، المعيل والمربي وأنا اليوم على الرف وثقيلة.
في عطفة الشارع لمحت الطلاء المتقشر لحجرة خزان الماء فوق منزل الصديقة، فشعرت بجفاف في حلقها..
فجأة انطبقت دفاتر الذاكرة في دماغها.. جمدت عارية من تالي اسمها، مكانها، ووجهتها.. انسخلت من كثير ولفها ضباب أصم.
بعد لحظات عادت أنوار عقلها، ومعها آلامها.. هجمت عليها ذكرى الفترة بين تذمر عيالها من سطوتها واحتلال زوجاتهم لهم.. فاجأتها مختصرة سريعة كطعنة في الخاصرة.
ارتبكت مزنة، ثم أكملت سيرها ملتبسة بلحظة النسيان المريحة كنشوة مراهق جرب استمناءه الأول.
فكرت أن تعود لبيتها لتستوعب ما حصل، غير أن الصديقة تنتظرها ولا يجب أن تشك في شيء.
في الأسابيع التالية بدأت مزنة تنطوي.. لم يلحظ عيالها ذلك في البداية، يلتمون حولها، يسألون عن حالها لدقيقتين أو ثلاث ثم يتخاطفون مساحات الكلام من أفواه بعضهم، وهي منطرحة بينهم.
تنظر لأشمغتهم المنشاة ولحاهم التي غبّر الشيب بعضها، يصيبونها بملل فصداع، ساعتها يغشاها الضباب الكثيف.. يغمرها، يقيم بينها وبينهم سدا وينزع الألفة عن وجوههم.
عندما بدأت تتغطى ببرقعها في وسط جلساتهم حسبوا أن وجهها الذاوي يخجلها، وحين باتت تكرر أسئلتها ركنوا لورع كاذب يردون به استفهاماتها.
لم تخطط مزنة المراحل التالية، لكنها ظلت تنكص بهم من شيخوختها لطفولتها، ولم يعد ممكنا إيقافها.
انتبهوا متأخرا جدا، عرضوها على أطباء، ثم تمترسوا عن هجمات قلقهم عليها بأكياس أدويتها.
مع الوقت صارت مجالستها مهمة يتناوبونها، كل يوم يلازمها واحد وعياله.
استمر هذا الروتين حتى انطلق لسان مزنة ذات ليلة يسرد خيالات خادشة للحياء!
المستورة التي لم تشر لرجل بكلمة مذ مات أبوهم شرعت تغوي صبيتهم، وتناديهم لفراشها..
بحركة واحدة نفضت الأحفاد وأمهاتهم عنها.. Touché
في مرحلة لاحقة انطلقت “تطورق” طواريق أبيهم في السفر، فترحموا عليه وإن انبعث رماد سخطهم من هربه المبكر من حياتهم..
قبل أن يشلها الوهن صارت مزنة تغافلهم لتهرب.. وكل مرة يردونها وما بينها وبين نخيل أمها غير الجدول.
٦ مارس ٢٠٢١