في كائنات من طرب كان الحوار هو سيد الرواية. وإن يتم التخفف من السرد ومنح المساحة الكبرى للحوار يعد هذا الأمر مغامرة سردية . كيف هي معاناتك في جعل الرواية تسير بهذا الرتم الحواري؟
الوصف حين يرسم الكاتب العالم حول أبطاله أو الطبيعة أو نهرا جاريا ، لم أكن أستطيع تحمل تلك المقاطع فكنت أتجاوزها هرباً ، وربما هذا ما جعلني أقلل منها فيما أكتب حتى وصلت المرحلة لكتابة كائنات من طرب كان هدفي ألا ألقي بآرائي الشخصية على الشخصيات ، وأن أترك ذلك لقارئ سأشوشه بتضارب الآراء كما تشوشني في واقعي ، وفوجئت بهذا النمط يطغى على العمل صفحة بعد صفحة العمل الذي سقط على أوراقي في صباح خميسي جميل على صورة حوار متشنج بين رجل وامرأته.
أجد لغتك لغة صارمة .. المفردة في نصك شرسة . حتى عندما يأتي البوح في السرد تحتفظ لغتك بصرامتها وجديتها .. هذا التعاطي الحاد مع اللغة بماذا تفسرينه ؟
– لا أعرف ، حقيقة لا أعرف ، لم أنظر يوماً للغتي على أنها صارمة ، ولا جادة ، وهي تأتي بالشكل الذي هي عليه ولا أعرف كيف أجعلها تأتي بشكل آخر.
لاحظت أن الكثير من القراء عانوا من تعدد الشخصيات وكثرتها – بل البعض منهم توقف عن قراءة الرواية لكثرة الأسماء وعدم تواصله مع عوالم الرواية – هل توقعتِ ردة فعل مثل هذه من القارئ ؟ وما هو المبرر الفني بإقحام كل الأسماء في بداية الرواية لم يكن هناك تدرج في تقديمهم اثناء السرد ؟
– بعد كتابة العمل قرأته شقيقاتي وحكين لي عن تعدد الشخصيات ، ثم أعطيته لزميل شاعر أحترم رأيه فتوقف عند نفس النقطة ، حين وضعته بين يدي رنا إدريس ” دار الآداب ” تلقيت موافقتهم مع إشارتهم لتعدد الشخصيات ، لكني كنت أريد الصدق في نقل واقعي ، فالحكايات في بلدتي لا تخص أهل الحكاية بل أهل البلدة كلها وسيكونون على حوافها من البداية ، وهذا ما أردت أن أمنح القارئ صورة عنه.
بالطبع أعرف أن ذلك قد يزعج البعض ، وكانت مغامرة بأن يترك بعض القراء النص في صفحاته الأولى ، لكنك تعرف أني لم أبحث عن الشهرة يوماً ولا عن الشعبية ، وأن القارئ الذي أريده هو من سيتحمل مشقة الأسماء ويواصل ، لأن من يمتلك الصبر ليقرأ سيملك – من وجهة نظري – القدرة على أن يرى جماليات النص.
العنوان كائنات من طرب .. ولا طرب في الرواية – لم تكن اجواء النص تحتمل هذا العنوان – ما رأيك ؟
– أردت أن آخذ الفكرة السائدة عن أهلي ” الدواسر ” وأطرحها ، أهل الطرب ليسوا في حالة طرب دائم . الطرب عند الدواسر موضوع يتناوله البعض بخفة ، لكن لا أحد يعرف عمق المسألة ، وهي مسألة بدأت تشغلني منذ بدأت أكتب قصصاً من روح المكان وأهله ابتداء ب” حرمة ” ثم ” يوم هناك ، و” رمل ” وكلما انشغلت به أدركت صعوبة تناوله.
اعتقد كانت صعوبة للمؤلفة أن تصنع الحوار بهذا الأسلوب الذي يمزج ما بين الحوار الذي يثير الأسئلة ويريد أن يصعد حدة الصراع في الحدث وما بين الحوار الكاشف لدواخل الشخصيات .. إلى أي حد جعل غياب عامر في نكهته البوليسية يتعايش مع الحياة المستمرة للشخصيات الرواية؟
– الحوار بالنسبة لي صنعته بمتعة وبصعوبة ، وحاولت فيه قدر ما استطعت الموازنة بين ما ذكرت حريصة على ترك مجال للقارئ ليكون له هو أيضاً مشاركاً فاعلاً في الحكم على الشخصيات . عامر أردته غائباً حاضراً بألسنتهم التي تتناوله فتفضح دواخلها حين تعريه هو . بالطبع ما كنت أستطيع جعلهم يشكلونه بطرق متعددة لو كان حاضراً.
أنتِ جيدة في كتابة شخصية الرجل بشكل عام .. لديك ذاكرة تدري بتفاصيل الرجل. لذا تتفوق ذاكرتك عندما تكتب الرجل وتتراجع عندما تكتب عن الأنثى .. كيف تفسرين هذا الأمر ؟
– المرأة دائماً تتهم بأنها لا تجيد تصوير الرجل فيما تكتبه ، والآن حين تقر يا طامي أني أعرف كيف أكتبه تقول إني لا أرسم المرأة جيداً ! أيستكثر تفكيرك المنحاز للرجل علي الجمع بين الحسنين.
أيضا في تجسيد الأنثى الشابة روائيا أنتِ أقل.. ربما عجائز كائنات من طرب كانوا أكثر خصوبة سردية في الرواية. لماذا التدفق السردي كان من نصيب النساء الكبيرات ؟
– اشرح لي كيف أنا ، لأجيب عن هذا السؤال !
وهج نورة السردي الضئيل لأنك واقعة أسيرة لنموذج نورة .. هناك انحياز ما لتلك الشخصية .. لكن هذا الانحياز أضعف تلك الشخصية؟
– نورة شخصية ضعيفة إنسانياً ، وأعتقد اني اجتهدت في رسم هذا الضعف في مشاعرها تجاه عامر ، منصور ، طارق ، وحتى في علاقتها بأهلها وصديقتها ..
عن شخصية طارق .. أعتقد لا وجود لشخصية المحقق في واقعنا .. لكن بررت هذه الاستعانة بشخصية طارق ليلعب دور المحقق . ومع هذا لم يتم تعميق وجوده .. أيضا هناك استسهال علاقاته الغرامية على هامش بحثه في القضية . كيف تنظرين لهذه الشخصية ؟
– وجود طارق كان مبرره الفني إيجاد شخص من خارج العائلة ينبش تاريخ عامر ، ولديه من حرية الحركة ما يسمح باطلاع القارئ على ما لا يعرفه أهل عامر عنه ، أما استسهال علاقاته الغرامية فقد كانت علاقتين مع قرينتي عامر ، وهذا نفسياً ممكن ، حين تبحث في تاريخ شخصية وتأسرك قد تتماهى معها ، وتريد أن تمشي في الدروب التي مشت فيها ، وتعيش التفاصيل التي عاشتها ، ولم يكن هناك استسهال في الغراميات ، فعلاقته بنورة احترمت الحدود التي يفرضها المكان ، وأعتقد أنه لم يقع حتى في غرامها ، أما سماح فقد كانت شخصية ملفتة ، ومع ذلك أيضاً وقف عند حد معين فيها لم يتجاوزه.
للمرة الثانية لا تسمي أمل الفاران المكان في روايتها. وهي تكتفي بمسمى ( الديرة). فعلتها في روايتها الأولى ( روحها الموشومة به ) وكررت تغييب الاسم في ( كائنات من طرب ) ولا أعرف مبرر عدم ذكر الاسم برغم إشارتك لعديد من المناطق ( الرياض، جدة، الطائف، القصيم، أبها) وهي أماكن جرت فيها أحداث لشخوص الرواية؟
– لا أريد الاتكاء على المكان لتسويق العمل ، ومن ناحية أخرى لا أريد لأحد في المكان – كما حصل معي عدة مرات مع عدة قصص – أن يفترض أنها حكايته وأنني أبوح بها دون إذنه.
ليس هناك حب حقيقي في الرواية. هناك إشارات للحب. فالحياة في بيئة الرواية لا تسمح بالحب العميق. وإن كانت الساردة حاولت تخليق حب في قلب نورة للمخبر طارق وجعلت المخبر يتجه في حبه لسماح احدى عشيقات عامر. إلا ان تلك الحكايات العاطفية لم تكن مقنعة تماما؟
– سأتوقف عند حكاية أن المكان لا يسمح بحب عميق فذلك غير صحيح إطلاقاً، أما أن الحكايات العاطفية لم تكن مقنعة فأنا لم أكتب حكاية حب ، والحب لم يكن شاغلي في العمل ، وإن جاء فيه.
اللافت للنظر أن الساردة في الحوار بين شخوص الرواية حاولت النجاة من أسطرة هذا الاختفاء أو حتى إلباسه شيئا من الكرامات التي عادة ما يتم إلباسها الموتى والمفقودين. بل كان الحوار يتجه إلى استنطاق الشخصيات وكيف ترى سيرة عامر. مالذي كنتِ تريدين إليه من غياب عامر ؟
– الغياب حكاية ألم مغروسة في الذاكرة الجمعية لأهلي ، منذ الغائبين في أسفار لا يعودون منها باتجاه البحرين ، ثم باتجاه البترول ، وبينهما جنوباً باتجاه اليمن ، ودوما غيابات من تأكلهم الصحراء . قد يكون الغياب رمزاً لإحساس بالفقد قديم ، وقد يكون رمزاً لفقد آخر .. أما الموت فلأهلي طرق غريبة في التعامل معه ، في تقبله ، في الحديث عنه ، وأنا فقط أرصد ما أرى.
جريدة الرياض
٢١-٥-٢٠٠٩م
“وأن القارئ الذي أريده هو من سيتحمل مشقة الأسماء ويواصل ، لأن من يمتلك الصبر ليقرأ سيملك – من وجهة نظري – القدرة على أن يرى جماليات النص”
برأيي الخاص أن القارئ الحقيقي لا يصل لفهم النص إلا بعد أن يغرق في المعنى و كلما تشابكت أغصان الشجرة كلما زادت ظلالها و أصبحت تسر الناظرين ، القارئ الحقيقي لا يكتفي بالمعنى الظاهر بل يتوغل ليقرأ ما بين السطور و مالم يكتب لسبب أو لآخر
” أجد لغتك لغة صارمة .. المفردة في نصك شرسة . حتى عندما يأتي البوح في السرد تحتفظ لغتك بصرامتها وجديتها .. هذا التعاطي الحاد مع اللغة بماذا تفسرينه ؟”
برأيي الخاص أيضاً أن هناك علاقة طردية بين قسوة الكلمة و صرامة اللفظة و بين ليونة قلب كاتبها فالكاتب أحياناً يحاول إخفاء أحد صفاته بين السطور بحيث لا يبق لنفسه أثر
قد تصنع صرامتك اللفظية حاجزاً بينك و بين الكثير من القراء الذين أعتادت أعينهم على النصوص المزخرفة و المعاني المدبلجة و لكنه و في نفس الوقت سيصنع جسراً بين نصوصك و بين كل قارئ يرى في القراءة صلاته
🌹🌹🌹