تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » فنيس

فنيس

يورطني أبي بأناسه، يكوي بحكاياتهم رأسي كما يسم بدوي فخذ ناقته. بلسانه يرسم تفصيلا أو اثنين لبطل قصته ويترك باقيهم لأتمه.

حين رمى شبح “فنيس” في بطن حديث آسن زحف الرجل مثل ” أم جنيب ” ليندفن في صدري.

عن حياة الرجل لم يرو أبي غير خشية عياله أن يموت قبل أن يعرفوا كم لديه من مال؟ وأين يخفيه ما دام يكفر بالبنوك وأهلها؟!

* * *

بحسب رواية أبي ستكون الورقة الوحيدة التي يتمسك بها فنيس هي تابعية قديمة، بطاقة كرتونية تفيد أن وجهه مستطيل/ عيناه عسلية/ غير متزوج، والعلامة الفارقة شجة في ذقنه.

بهذه الورقة ظل يحصل على شرهته السنوية كلما زار الأفلاج.

* * *

في ستين عاما تجعدت حواف الورقة، وتشبعت برائحة عرقه. فنيس تغير أيضا: الشجة لم تعد ترى تحت لحيته الفضية الخفيفة، ولو حلقها ما استطاع أحد تمييزها عن أخاديد الأيام في وجهه الذابل. عينه اليسرى انطفأت، وبؤبؤها تحجبه سحابة رمادية.

الثابت الوحيد في التابعية غير اسم فنيس محل إقامته ” في البر”

هذا البر لا يختلف عن العقال الذي قرنت أمه به كراعه وعمود خيمتها وهو رضيع؛ برّ فنيس هلال رملي طويل طرفه السفلي “الهضب ” في أقصى وادي الدواسر وطرفه الأعلى “رماح” شمال شرق الرياض. والرجل يسعى عمره بينهما.

في السنوات الأخيرة مس التمدن طرف بشته الشتوي دون أن يبلل عراقيبه الحرشاء.

يسكن فنيس اليوم بيت شعر أكبر، أما العيال فقد نبتت لهم حجرات إسمنتية حوله.

يولد آل فنيس ويحيون ما شاء الله، ثم يقبضهم وهم في البر. يدفن حيهم ميتهم ولا ينتظر دوره.

* * *

في البر تميت الظنون عيال فنيس وتحييهم: عيونهم على جيبه ويتأرجحون بين حنق على أب بخيل وخزي أن يكونوا قد أساؤا الظن بمسكين.

فنيس – حتى بعد أن هرم – لا يحسم جدلهم مع أنفسهم. بلا إنذار يغيب عنهم وبلا توضيح يعود. يعطيهم مرة ويسكت مرات، فإن مسهم الضر وطالبوه فغر جيبه في وجوههم ” ما في جيبي ريال” لكنه إن قالها غاب بعدها غيبة قصيرة وعاد بما يشبعهم أشهرا.

فنيس سيموت يوما ما.. سيبكيه عياله قبل دفنه.. وهم يغسلونه سيبكون.. وبعد أن يسووا عليه التراب.. وسيظل يأتيهم هو أو كنزه في أحلامهم.

* * *

حين حكى أبي عن فنيس وصفه بأنه أعرابي، وهي صفة يطلقها على فئات لم أجد رابطا متينا يجمعها غير اللهجة، فما إن يقلّد أبي نبرة أحدهم حتى أعرف مخارج أصواتهم وصفاتها التي ترتد لزمن واحد في ذاكرة أبي هو زمن البر.

في صغري اقتنعت أنه يحرص على النقل الأمين لكلماتهم لأنه يخشى أن تميع مواقفهم إن استخدم غير أصواتهم، واستلزم الأمر سنوات لأنتبه أن نتف الحكايات المنقولة لم تكن أمينة تماما، فقد اصطدت عدة مرات ظِل عمة قديمة لأبي خلف كثير من أقوالهم، كان صوتها بغنته الأزلية يلوح خلف التعابير الرجولية اليابسة.

* * *

لماذا لا يثق فنيس بالبنوك؟ لا يهتم أبي بأن يبرر، ولو سألته فسيطير بي لسانه لأرض حكاية جديدة، ربما لأنه لا يعرف وحاشاه أن يعترف بأمر كهذا، وربما لأنه يكره الحكايات المكتملة ولا يثق بها.

فليكن فنيس إذن في البر وفي يده رزمة مال أحصاها مرات عديدة، وهو على شفا قرار لا يعرف إن كان يجب أن يعود بالمال لعياله أو يخفيه عنّا وعنهم.

* * *

أمي – على عكس أبي – مولعة بنهايات القصص. أخبرتني أن فنيس مات، لم ترفع سماعة جوالها لتنقل لي الخبر فهي لا تعرف أنه يحيا في صدري منذ أن حاج عياله بلسان أبي أو عمتنا بـصوت أخنّ “الصيت ولا الغنى”

أمي نقلت خبر موته بين خبر عرس وولادة واستوقفتها أسألها عن عياله والبر، قالت مستغربة أو محاوِلة التذكر: له عيال؟ أعرف ثلاث بنات.. الكبرى هنا واثنتان في الأفلاج.

٢ أغسطس ٢٠١٩

هل تود معرفة كل جديد ؟
يمكنك معرفة آحدث ما تم نشرة أول بأول , كل ما عليك هوا إضافة بريدك الإلكتروني

تعليقات القراء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *