تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » غياب

غياب

هذا الصباح ثقيل جداً، لم أستطع النهوض، قوة خفية تشدني للسرير. أحسست أني ملتصقة به. نفذت إليّ أشعة الشمس تحت الغطاء فيما كانت دقات الساعة الرتيبة تردد بجَلَدٍ أحسدها عليه: انهضي.. انهضي.. انهضي..
لما سكتت دخلت أمي تسبقها تراتيلها الصباحية، لما رأتني زفرت بقوة ثم رفعت الغطاء وألقت به جانباً.
طالعتها عيناي شاردتين. لساني تمتم بكلمات لا أعرفها. فجأة تمطى جسدي ونهض دون أن يستأذنني ثم اتجه للحمام فيما بقيت أنا على الوسادة شبه عارية.
لما خرج جسدي من الحمام تناول فرساة شعري وصففه بسرعة ثم عقصه في ضفيرة طويلة، ارتدى القميص الأبيض والتنورة الخضراء وكالعادة ترك بعض أزرار القميص مفتوحة ليكمل إغلاقها في السيارة.
لاحقته أمي بكوب الحليب فامتنع متذرعاً بضيق الوقت لكني وحدي أعرف كم يكره رائحة الحليب. اقتربت أمي منه أكثر فانكمشت ُ أنا في سريري خوف أن تعرف أني لست حيث يجب أن أكون لكنها لم تلاحظ شيئاً . ربما تكون هي الأخرى ما تزال في سريرها بانتظار موعد خروج أبي للعمل حتى تغمض عينيها باطمئنان.
عادت يداي بسرعة للغرفة، خفت أن تنتزعني من مرقدي لكن إحداها التقطت العباءة فيما تناولت الأخرى الحقيبة وخرجتا مسرعتين.
لما انصفق الباب خلفهما تساءلت إن كانت زميلاتي سيعرفن أني لم أحصر اليوم للمدرسة.
أعتقد أن الزمن نسبي فحصة الفراغ تكون قصيرة جداً لا تستوعب حكايانا، وتتسارع الدقائق أكثر وأكثر كلما كانت الحكايا أفضل. في المقابل فإن حصة الانتظار تتطاول فتتسع لتفحصكل الوسائل التعليمية المعلّقة في الفصل وتصحيح أخطائها الإملائية والأسلوبية وعدّ بلاط الأرضية ومراجعة أنساب التلميذات وتواريخ أسرهن.
هل ستقيّد حصصي ضمن حصص الانتظار؟!
بعض المعلمات لا نحس بغيابهن حتى يمر علينا سجل  الانتظارالأسود يتهادى بين يدي الوكيلة تشيّعه ابتسامتها المعتدرة تكلّفاً.
ترى هل أنا من هذا النوع من المعلمات؟ أم أني الحاضرة حتى في غيابي؟ على الأقل ستفتقدني ثلاث زميلات.
الآن موعد الفسحة وسيتسابقن لهاتف الإدارة ليسألنني عن سبب غيابي. أنا بدوري سأخفض صوتي وأدغم كلماتي وسأتذرع بأني مرهقة قليلاً ليتفنن في شرح مقدار استيائهن لغيابي.
أنا واثقة من ذلك لأن هذا ما أفعله حين يتغيبن ( عبثٌ منطقي )
انتظرتُ قدوم أمي لتدعوني للرد على اتصالاتهن لكنها لم تفعل. ربما لم تنتبه لوجودي لكنهن سيقلن لها أني لم آتي إلى المدرسة وستأتي لغرفتي لتتأكد بنفسها.
مر وقت طويل دون أن يسأل أحد عني. انتابني شعور مرير بالوحدة. حتى النوم فرّ من النافذة لما فتحتها الخادمة صباحاً.
بعد الظهر عاد جسدي من المدرسة. استقبلته مرحّبة لأنه يحمل أخبار مدرستيورائحتها تنثّ منه. حتى بقايا الطباشير التي تطايرت في الغرفة حين خلع التنورة ورماها على طرف السرير أسعدتني. سألته عن الأخبار فقال: لا جديد..
– كيف؟’ أنا لم أذهب اليوم للمدرسة أليس هذا بجديد؟! ألم يستنكرن غيابي؟!
– من تعنين؟
– الكل: زميلاتي، مديرتي، تلميذاتي، حتى كرسيي.
بعد أن حلّ الضفيرة قال: إيه .. الكرسي وحده أحس بغيابك لأنه ارتاح من أحاديثك المملة.
صرخت: معقول؟! أهو قال ذلك؟ لكن لمن أحكيها ما دمت أقول لكلٍّ ما يريده؟ ألذلك الكرسي اللعين أيضاً أحاديث يهمه أن أرويها له فمتى أتكلم إذن؟!
نفضت يداي الغطاء مطيّرة كل علامات الاستفهام ثم تمدد جسدي على السرير وقال: لو رأيتني اليوم كيف تصرفت. الكل أثنى عليّ. وبالمناسبة لا داعي لذهابك للمدرسة بعد الآن فأنا أقوم بواجبي جيداً والأمور ستسير هكذا أفضل.
ساعتها انزويت تحت الوسادة فغطاني جيداً وقال: لا تبتأسي أعدكِ بأني كل مساء سأروي لك ما يحصل معي هناك.
١٩٩٥م

من مجموعتي القصصية ” وحدي في البيت “

هل تود معرفة كل جديد ؟
يمكنك معرفة آحدث ما تم نشرة أول بأول , كل ما عليك هوا إضافة بريدك الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *