حركة دائبة وأحاديث هامسة عمت معظم أقسام الشركة، الألسن تردد اسم سالم والأصابع تشير إليه. بعض الأعين تلتهم جسده النحيل.
قال زميله في القسم يحادث آخرينمعه: ” احرب الشيخ واصلح قعيده” لولا الشايب رئيس قسمنا السابق ما عرف المدير سالماً ولا غيره.
– والله قهر! ما بعد أتم السنتين عندنا وصار رئيسنا وأنا قضيت في الشركة عشرين سنة وما فكر المدير أن يقول لي : ” يعطيك العافية “
نقرات خفيفة على باب المكتب قطعت الحديث الهامس. دخل شاب في حوالى الثلاثين من عمره وألقى تحية مقتضبة فابتسموا له جميعا وتراكضوا نحوه: مبروك يا أستاذ سالم!
– مبروك علينا ترقيتك.
– تستاهل.
شكرهم بابتسامة قصيرة وإيماءة برأسه وتناول بعض الأوراق من أحد الجوارير ثم مضى. عادوا إلى مكاتبهم فقال أحدهم: من أولها حتى الكلمة يردها علينا. أومأ له زميله مشيراً إلى الرجل الأشيب الواقف بالباب فالتفتوا إليه جميعاً.
تنحنح وسلّم ثم وزع عليهم أكواب الشاي وقال : يا جماعة! سالم أحسن من الغريب. ولد طيب وخجول وفاهم وعمره ما أغضب أي واحد منكم. قال أحدهم: يمكن يتغير بعدما وصل.
وضع العجوز آخر كوب على الطاولة بحذر ثم استدار ليواجههم قائلا: لا سالم ما يتغير. سالم رجّال وأنا أعرفه زين. في المكتب المجاور كان سالم جالساً يتفحص أوراقاً أمامه ثم وضعها جانباً واسترخىفي مقعده.
شبك أصابعه خلف رأسه، ثبّت عينيه على السقف طويلاً بعدها انفرجت شفتاه عن ابتسامة قصيرة وفجأة تقلصت عضلات وجهه وعض على شفته السفلى ثم تنهد بعمق وفي هذه الأثناء دخل صديقه مبارك، اقترب منه فلم يحس به. نقر بإصبعه على المكتب: هيه الظاهر إنك رحت بعيداً. رد سالم بسرعة: هاه فيه شيء؟
– أنت فيك أشياء. ابتسم سالم وخفض بصره ثم قال: تدري.. الدقائق الماضية كنت في ديرتي، تصوّر حتى الذكريات السيئة ما قدرت تنسيني الديرة وحنيني لها.
– ذكريات سيئة! أية ذكريات؟
تورّد وجه سالم حرجاً فأكمل صديقه: ما أعرفه أنك من عائلة غنية ومعروفة هناك وأنك كنت مثال الفتى الذي يتمناه كل أب في أبنائه فمن أين جاءت الذكريات السيئة؟
صمت سالم فغيّر صديقه مجرى الحديث قائلاً : صحيح.. نسيت أبارك لك على الترقية ( ألف مبروك ) لكن قل لي على أي شيء نويت الآن؟ نظر إليه سالم مستفهماً فقال: أقصد ما بقى عليك إلا الزواج.
تلاشت الابتسامة المرتسمة على وجهه ومبارك يقول: عمرك الآن اثنين وثلاثين سنة ماذا تنتظر؟
ركز سالم نظراته على صديقه وعلا صوته وهو يقول بتحدٍ: أنا ما أفكر بالزواج.
– الظاهر أنك لن تفكر فيه أبداً.
لوّح سالم بيده وقال غاضباً: هذه شؤوني الخاصة ولا أسمح لك بالتدخل فيها.
– سالم أنا ما قصدت إغضابك.. لو كنت أدري أنك..
في هذه اللحظة دخل أحد الموظفين يخفي ابتسامة وهو يقول: أستاذ سالم! واحد من جماعتك موجود عندنا.. له معاملة والشباب يخلصونها له.. تصدق إنه ما يدري إنك معنا في الشركة!
سأله سالم: ما عرفت اسمه؟ نظر إليه متفحصاً وأصابعه تعبث بشاربه الكث ثم أجاب: اسمه أبو سعيد.. أبو سعد لكن كلامه كثير وما أدري إن كان صادقاً أم لا.
قال كلمته الأخيرة وهو يعدّل غترته ثم مضى يغالب رغبة شديدة في الضحك.
امتقع وجه سالم وردد اسم الرجل عدة مرات: أبو سعد! من بينهم كلهم ما يجيء إلا هو!
سأله مبارك وقد لاحظ ما بدا عليه من قلق : من هو أبو سعد هذا؟ فنظر إليه سالم طويلاً وكأنه لم يستوعب سؤاله ثم خرج مسرعاً وسار في ممر طويل تتناغم فيه وقع خطواته السريعة مع أنفاسه اللاهثة.
اقترب من أحد الأبواب ثم مال برأسه نحوه فسمع ضحكات زملائه. هوى بقبضته المشدودة على الباب حين ميّز صوت أبي سعد الأجش وهو يقول: ما عليك منه هذا ما هو برجّال.
هجم سالم على غريمه وأنشب أظافره في عنقه وصرخاته تتردد في المكان: أنا رجل وأحسن منك.
تكوّم أبو سعد على الأرض ولوّح بيده لمن حوله ليخلصوه، فنظروا إلى بعضهم وقد فاجأهم الموقف. دخل مبارك، سألهم عما حدث فلم يجبه أحد. حاول إبعاد سالم عن الرجل فلم يقدر. التفت للواقفين راجياً منهم مساعدته. اختلط صوته بصرخات سالم الهيستيرية : تلاحقني من الديرة إلى الرياض بنفس الكلمة؟! أما كفاك إني تركتها لك؟!
أخيراً أفلحوا في إبعاده فتحسس أبو سعد عنقه ثم انتصب في وجه سالم وصاح بصوت متحشرج وأنفاس متقطعة : أنا ما قصدتك. أنا كنت أتكلم عن واحد غيرك لكن ” السارق على رأسه …”
تملص سالم من زملائه وانقض عليه من جديد إلا أنهم أبعدوه وأخرجوه من المكتب وقال أحدهم : يا .. أستاذ سالم اقصر الشر. هذا رجال كبير وما عليه شرهة.
قاده مبارك إلى مكتبه وهناك واساه قائلاً : سالم الرجولة أخلاق. ما هي بكلام فارغ مثل ما هذا الشايب يقول.
رفع سالم عينيه إلى صديقه فتحاشى نظراته وقال: على كل حال سأتركك الآن وسأعود عندما تهدأ.
لما أغلق مبارك الباب خلفه هزّ رأسه وتمتم : الآن عرفت لماذا غضب حين ذكرته بموضوع الزواج.
في الخارج كان الجميع يتهامسون ويرددون اسم سالم ويتساءلون عن رجولته المشكوك فيها. بعد ساعة عاد مبارك إلى مكتب سالم فوجده خالياً وعلى الطاولة ورقة صغيرة تعلوها كلمة استقالة وتحمل توقيع سالم.
١٩٩٥م
من مجموعتي القصصية ” وحدي في البيت “