بمنجله الحاد يسوي ما تشعث من رؤوس الحشائش الزرقاء الصغيرة فوق القبور، لباسه الرمادي مسبل على جسده اليابس ، حتى أطراف وجهه يخفيها ..
التقطت أذنه ذبذبة غريبة على سكون المكان ، لم يميزها أول مرة ، ثاني مرة خالها صرخة مكتومة ، وفي المرة الثالثة حين تأكد أنها مشروع ضحكة انتفض ..
نظرته العبوس جالت بين القبور ، هي أكثر من أن يحيط بها بصر ( وإن كان بصره هو )
العناية الفائقة في ترتيبها أعادت له ثقته بذاته ، حتى كاد لشدة زهوه ينسى ذا التهديد الجديد ..
عاود النظر للمكان بتفحص ، فكر بأن يزمجر طالباً من الصوت المتخفي إظهار نفسه ، ثم – مقدراً أن ذلك قد يجعل الثاوين في الأجداث ينهضون – تراجع ..
توقف لحظة مستغرباً خاطره الذي يمر بباله لأول مرة ، تساءل إن كان ذلك خاطراً مخيفاً، تساءل بعدها إن كان جديراً أن يخطر..
جسده ينطق بالزهو كله لما وصل لقناعته القديمة ؛ رعاياي أنا الأعرف بهم ( لا شيء سينهضهم ) ، قالها لتنتبذ الضحكة مجهولة النسب مكاناً قصياً على حبل ذاكرته المهترئ ..
عاد لجز الحشائش بهمة أججها إحساسه المتعاظم بسطوته ، فتلاشى الصوت ، حتى كأنه ما كان ..
شمس ذاوية تتشبث بسقف المكان قدر ما تستطيع ، تحاول إنارته له ، قبل أن يبلغ الجهة الغربية من المقبرة كانت هي تنزلق في الاتجاه ذاته .
نشاطه ظل في معدله المعتاد حتى وهي تزحف لتندس وراء جدار الأفق الطامن .
أفكاره القليلة تبهت الآن ، ويلهيه عنها كلها هاجس إنهاء العمل ليرتاح قبل موسم الحصاد القادم ..
القبور في ذي الجهة آخر ما استجد في المقبرة ، لم يكن قد مضى على تبرعم أكثرها وقت طويل ، لكنه لاحظ أن الحشائش فوقها أعرض صدوراً ..
فكر أنه لم يكن يوماً مرتاحاً لها ، شيء فيها منفر لم يستطع توصيفه .
وهو يحاول تجاهل ذلك التصقت بوجهه علاماتٍ كالسخط ، وبسرعة تماهت فيه؛ حتى أن من لم يره من قبل سيظنها جزءاً أصيلاً من ملامحه ..
رفع منجله عالياً ، هوى به على العشب فانفلتت أنة صغيرة ، توقف ، تشمم الهواء ، نظر تحت رجليه ، كان المنجل موشوماً بنقطة حمراء حارة ، قربها من أنفه فارتعد جسده كله ، فيها رائحة يعرفها .. رائحة حياة ..
عيونه جحظت وهي تمسح مستطيلات الرمل النابية ، كأنما تحاول خرق التراب لتبصر عدوها تحته ..
فكر ، لو أنه سمح بوضع شواهد للقبور الجديدة لعرف بسرعة ابن المارقة الذي تنبض أعضاؤه الآن تحت هذا الركام ..
القبر تحت رجليه صغير..
– إذن فالموضوع فيه طفل .. قالها ، وهمَّ بأن يستنطق المسجى وسطه .
بخفه نقر وجه الأرض ، ثم صد مستكبراً جدال من كان في الرمس صبياً ..
التفت إلى يمين القبر حيث يوارى جسد الأم ، قفز نحوها ، نبش ترابها الأسود ..نفضها ..
استغرقت وقتاً طويلاً لتفتح عينيها ، ووقتاً أطول لتفهم أن ما تراه ليس حلماً ..
وجهها الأشد شحوباً من الأقمطة المحيطة به تلبسه هلع أصفر، لم يكن شفيعاً مقنعاً لها عنده ..
يفك اللفائف حول عنقها وكل الخواطر تمر ببالها لاحتمالات عقاب كارثي على خطأ لا تعرفه ..
لكي تهرب منها انشغلت به ، للمرة الأولى تراه بهذا القرب : متهدم الوجه ، عينه تحرقها ، رائحته النتنة تطغى على رائحة جسدها المتحلل .
ولأن الموت أهون من انتظاره فقد تجرأت وسألته : ماذا حصل ؟
لو انتبهت لعرفت أنها أنقذته بسؤالها هذا ، كان شبه تائه قبله ، أثارته نشوة اليقين بأنه يعرف ما يريد بالضبط فزمجر في وجهها : وأنا أجز العشب فوق قبوركم طفرت نقطة دم من فوق قبر ابنك ..
– مستحيل . قالتها قبل أن تلتفت قدر ما جاد به القماط من حرية لعنقها .
تتأمل رمس الصغير فتعاودها ذكرى قديمة ، لما ولدته ، وفي أول غفوة بعدها رأت في لفائف مولودها سراجاً منيراً ، استعاذت من شر الرؤيا كما استعاذت وقتها ، ودفنتها في أقصى الخاطر .
عاد ذو الوجه الصخري ينفضها : هذا ما حصل ..وأريد أن أعرف السبب في ذلك ، من أين له الحياة مادمتِ ميتة ؟!
نظرت صوب قبر وليدها بنظرة لا يمكن بسهولة نسبتها إلى الشفقة أو الغيظ ، ثم عادت لمستجوبها الذي كان يتشممها حالفة ألا يدَ لها في هذا ..
لشدة رعبها لم تستطع بعد ما قالت أن تحول عينيها عنه ، ظلت تحدق فيه حتى دسها في حفرتها .
طمرها بالتراب على عجل ، ثم ركع عند قبر الوليد .
ما إن غرس يده في التراب حتى ظهرت لفائف الصبي البيضاء ، في خاطره قرر أنه سيعود لمعاقبة أمه التي لم تغرسه جيداً في أحشاء الأرض .
انتزع الجسد الندي ، وبتمهلٍ فك لفائفه ..
رغم أثر ضربة المنجل في صدره كانت أنفاسه ذات نغمة هادئة أحنقته ، وشوشته أيضاً ..
يد السماء الجبارة اختطفت الشمس المريضة ، اعتصرتها وخلَّطتها بروحها الزرقاء ..
ثمة إلهام شيطاني في الصورة جعل الحارس يركض كالمسعور بين القبور .
– متأكد أنها هنا .. في مكان ما .. رأيتها من قبل .
كانت بنية السحنة ، طاوية الجوف ، تحت الرمل دست من جسدها ما استطاعت لتحميه من الحرارة ، الآن بدأت ترفع عنقها قليلاً لتتنفس ، رآها ، قبض عليها ، نكسها ، ونفضها ليخلي أمعاءها من ذرات الرمل الصغيرة فيه .
رفع القنينة ، مسح التراب عن ظهرها ، وعاد لقبر الصبي ..
شق ساقه بمديته ، وضع فمه على الشق الذي بدأ ينزف ، وأخذ يمص الدم الطالع من جدول اللحم المفري .
يملأ فمه به ويمجه في القنينة ..
لما جف لحم الصغير أعاد الحارس لملمة الخرق حول الجسد الذي صار بارداً الآن ، ورماه في حفرته ..
تأمل القنينة بقرف تحته لذة ، دسها تحت إبطه ، كوم التراب في حفرته ، وغادر المكان .
في الصباح التالي صارت صدور الحشائش قرب القبر المنبوش أعرض ..
وفي الموسم التالي حين عاد اليابس بلباسه الرمادي المسبل حتى أطراف وجهه ، وبمنجله الحاد يسوي به ما تشعث من رؤوس الحشائش الزرقاء فوق القبور كانت أربعة قبورٍ طفلةٍ مبعثرة الرمل خاوية ، وعلى جبين الأرض بجوارها آثار أقدامٍ صغيرةٍ ذاهبة ..
فبراير ٢٠٠٣م
نشرتها في منتدى شظايا أدبية
٢٤-٧-٢٠٠٣م
http://www.shathaaya.com/vb/showthread.php?t=20177