سارة سليم ( كاتبة وناقدة جزائرية )

يقول الكاتب اليمني وجدي الأهدل إن «تقييـم الـروائي لا يـكـون بموضوعـات رواياته، مهما كانـت هـذه الموضوعـات سـامية وإنسـانية، ولكـن بمهارتـه فـي اسـتخدام تقنيات الكتابة». ولعل في عبارته من الدقة ما يجعلنا ندرك تماماً أن الرواية الجيدة هي تلك التي نلمس فيها مهارة استخدام تقنيات الكتابة، فأي موضوع مهما كانت قيمته الإنسانيّة لن يصنع نصا، لذا فالروائي الجيد هو ذلك الذي يوظف موهبته الأدبية في نقل أي شيء بطريقة، وحده الأدب قادر على التعبير عنها. فمقولة الأهدل تحاول أن تمنح للقارئ فكرة عن كيفية قراءة الرواية كفن أدبي، وليس كحكاية عادية يمكن أن يقولها أي واحد فينا دون أن يكلف نفسه عناء التفكير في الطريقة التي سيقولها بها.
ولن أبالغ إن قلت إن أول عمل عربي خطر على بالي حين قرأت عبارة وجدي الأهدل، هو رواية “حجرة» للروائية السعودية أمل الفاران.
هذه الرواية تحديدا لا يمكن أن تقول عنها إنها تحدثت عن هذا الموضوع أو ذاك، إذ تشعر أنك أمام عمل أدبي لا يقول لك ما يجب عليك أن تسمعه، ولا يحكي لك الحكاية كما ألفت أن تقرأها، ولا ينظر عليك بما سمعته مرارا، بل يجعلك تصمت طويلا قبل أن تفكر في التعبير عن الأثر الذي تركه فيك. ولعل فكرة الكتابة عنه بعد الانتهاء من قراءته ظلم بحقه، فحجرة أمل الفاران تنتقل إليك طواعية لتتشكل داخلك، وتبدأ بالتوغل شيئا فشيئا حتى تصبح بشكلها النهائي، بعد ذلك تشعر أنه بإمكانك الكتابة عنها. قد لا تؤول ما أوحت به الكاتبة لمريم بطلة روايتها، التي لا نعرف هل هي مصابة بهلوسات قهرية أو لديها قرين، ولماذا حدث كل هذا التغيير في شخصيتها؟ بل تكتب عن المساحات التي تفرض عليك التأويل لا القراءة. فحين تقول: «في لهيب هاجرة صيفية.. مريم تحت عشة في وسط النخيل.. تحتها بساط وبري أسود.. تعبث به ريح عاتية.. يمتد طرفه سوطا شيطانيا ليلطم وجهها.. تسمع صراخاً.. تحاول تمييز الجهة التي يأتي منها.. تجري صوبه.. أقدامها حتى الظنابيب تنغمر في رمل حار.. تجد سيارة تالفة غاطسة في كثيب.. بابها مخلوع.. في السيارة أطفال.. طفل منهم يصرخ.. آخر يوشك على الموت أو مات.. يرفرف ثالث بيديه: ومعنا كلب»؛ فإنها لا تمنحك إجابات جاهزة، بل تحرك الأسئلة داخلك.
وكوجهة نظر خاصة، أعتقد أن أي المواضيع الروائية التي يستخدم فيها المؤلف مهارات الكتابة، يمكن أن يضيف شيئا للمتلقي، فكثرة الأخبار على مواقع التواصل، جعلتنا دائماً في موضع تلقي أي خبر دون أن نكلف أنفسنا عناء التفكير في صحته، ليأتي خبر آخر ينسينا الذي قبله، لذا وجد الأدب « لتمثيل الوجود الإنساني.» كما عبر عن ذلك تودوروف.
نلحظ أيضا أن الكاتبة تركت بعض شخصياتها الروائية دون أسماء، والأكيد لم تقم بهذا لمجرد الرغبة في فعل ذلك، بل للقول إنه ليس مهما التقيد بأسماء معينة، للتعبير عما نريد قوله، فالحكاية في كل مكان وإن اختلفت المسميات. حتى الزمن الذي تناولته الفاران هو زمننا الآن، وإن لم تصرح، بل لمحت فقط، فيما يبدو أنها تريد القول أن ماضينا هو حاضرنا، لا شيء تغير، إذ نعثر على مالم تذكره أمل ليكون الشاهد الأكثر حضورا عن حجرتها التي تطل على عالم يتجاوز تلك الجدران. فحجرة أمل ليست فقط الجدران، بل الفكر، المجتمع وكل ما يأتي معه من صراعات قد تقتل الواحد منا في عز الحياة، لذا كتبت بالعنوان حجرة بدون ألف ولام، وهنا كان اختيارها للعنوان ذكيا، إذ أن «حجرة» عرفت نفسها دون ألف ولام التعريف، بتعريف غير ما تعبر عنه حروف الكلمة أو يتجاوز «الحجرة» أي الغرفة، إذ لا نستطيع التعبير عما عبرت عنه أمل في حجرة. فهي تمارس على القارئ لعبة سردية لا تعتمد على التكثيف فحسب حين تعبر عن الأشياء، ولكنها تمارس الكتابة التي ترمز، فحين تقول الرواية إن: «مريم الجزء الناتئ في حلقة النساء.. النقطة التي توشك الدائرة أن تنفقئ فيها.. متنحية عن الأجساد المتقاربة.. بعيدة عن الحديث.. عن البكاء.. عن الضحك.. الضيفات طوال ساعة يعطين الفتاة ألسنتهن وترصد أعينهن خالتها.. تشفق البنت على مريم.. لو كانت مكانها ما احتملت نظراتهن»؛ فهي لا تصف مريم ولا أشباه مريم، بل تصف حالة من يعيش محكوما بشيء يجعله دائما محتارا ومشككا في الجميع وكأن ماضيا ينغص عليه حاضره.
وكما ذكرت سابقا، الحكاية تتجاوز الحجرة، تتجاوز المكان المذكور بالرواية والذي يحيل أيضا إلى أن القيد لا يمارسه المكان علينا، بل القيد هو التفكير المتحجر الذي نحاول أن نتخطاه أو نركض بعيدا عنه لكن لا نفلح، لأنه يحتل كل الأمكنة. إذ تقول الرواية: «لا تعرف إن كان يريدها أن تنقذ الكلب أو تحذر منه.. تحصي الصغار الواقفين مرصوصين في المقعد الخلفي.. تبحث عن الكلب.. لا مختلف بينهم إلا طفلة.. طفلة أقصر منهم قليلاً وأغمق بشرة بدرجتين.. خداها السمينان مشعران.. ترفع مريم البنت/ الكلب.. مع أن صراخهم تلاشى تركض بها.. تركض لتنقذها.. تركض في الرمل.. تركض في الحجرة.. تركض في البيت.
الفاران كاتبة سعودية أصيلة، لها أعمال أخرى منها: مجموعة قصصية بعنوان «وحدي في البيت «، 1999؛ وروايات «روحها الموشومة به»، التي حصلت على جائزة الشارقة للإبداع العربي سنة 2004؛ و«كائنات من طرب»، 2008؛ و«غواصو الأحقاف» 2016؛ والمجموعة القصصية «الفتاة التي لم تعد تكبر في ألبوم الصور»، 2019. وتتجلى في عملها أصالة الفكرة وأصالة التجريب، حتى أنها استخدمت تيار الوعي لتتمكن من القبض على صوت بطلتها، وطبعا من يكتب بهذه الطريقة لا يمكن إلاّ أن يكون ملما بأدواته السردية، فليس سهلا القبض على الأصوات التي اختلقتها الكاتبة لتكون إلى جانب صوت مريم.
وفي حوار معها نشرته على مدونتها الشخصية، علقت الفاران على حجم روايتها، فقالت: «شكلت كتابة هذه النوفيلا تحدياً لي على أكثر من مستوى: التحدي الأول أن أكتب رواية قصيرة بعدد شخصيات قليل، وهو أمر لم أفعله أبدا في رواياتي السابقة. هذا كان فعلا مقصودا تماماً. أما التحدي الثاني غير المقصود فقد جاء نتيجة محاولة كتابة مريم من الداخل». وأضافت: «هل تتذكر الأمير ميشكين أبله دوستويفسكي؟ كان مريض صرعٍ، طيب القلب، لو كتبه دوستويفسكي من الداخل لأنهى حكايته في خمس صفحات ولما سيطر على تفكيرنا. كان يجب أن نراه من مسافة لنتشكك مثل أبطال العمل ونعيد التفكير ورسم الحد ببن البلاهة والطيبة. كان لا بد لي أن أكتب مريم من الداخل في مواضع كثيرة، لكنها لم تكن كتابة سهلة إذ كيف تكتب من داخل شخص منفصل عن محيطه والكل يعتقد أن به مساً في حين هو مصاب بعلّة لا يعرفها. في مواضع كثيرة كنت أكتب وأبكي، لأن الالتباس في داخل مريم جاء صعباً ومؤذياً نفسياً».
ولكن الفاران في»حجرة» لا تتكلم عن المرأة وإن كان موضوع الرواية المرأة، ولا تتحدث عن القرية وكل ما تحمله القرى من خصوصية ما، ولا تستحضر الموروث وكل ما يخص البيئة المتحدث عنها روائيا، لم تفعل الفاران كل هذا وإن ذكرته، بل ما قامت به هو أنها كتبت رواية ذكية، بالطريقة التي نحب أن نقرأ بها الأدب. رواية تقول عن الإنسان العادي ما نلحظه ولا نلقي له بالا، فهي تقترب منا في أمور نشعر وكأننا نراها للمرة الأولى، مجردة من أي شيء كان يمنع عنا الرؤية، وفي هذه اللحظة تحديدا يبدأ مفعول الرواية التي ننهيها ببداية جديدة تمنح للتأويل فرصة قول ما شاء. فأفكار «حجرة» تنطبق على أي بيئة، أو امرأة، ففي الرواية خيط رفيع لا يمكن شرحه ولا الإمساك به، بقدر ما نشعر به بطريقة ما، فحجرة أمل الفاران أوسع من الألف واللام.
أمل الفاران: «حُجرة»
دار أثر، الدمام، 2021
86 صفحة.
https://www.alquds.co.uk/حُجرة-رواية-السعودية-أمل-الفاران-ال/