تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » حرمة

حرمة

1

أعيننا عليه ، ينمو ونحن نتواصى به على مورد الماء ..
– ” غداً يكتمل بدراً ” تنطلق همسةً جذلى فتهتز الرؤوس موافقة ، ثم نحمل ماءنا وننشد :
” تقولون ولا ما تقولـــون *** و لي صاحبٍ ما أجوز دونه
عسى البدو من دربه يهجـون *** وحضران ورقــا يتبعونه ”
على مفرق الطريق أنفلت ، أجتاز أول نخلنا ، أرفع رواق الخيمة الخلفي و أدخل ، أتجه لصندوقي الملون بأقصاها . أزن صرة الطحين في راحتي مبتسمة ، وأخرج ..
ضحى أمي تخض اللبن ، وأنا أعجن عجيني عجلى .
قبضة الملح – التي أذرها عليه – أعود فأزيدها وهمسات الرفيقات في أذني ” كثري الملح يأخذك للماء ”
في القايلة أقلبها ؛ شلفة صغيرة ناشفة الحواف . أخفيها منتظرة وقتها ..
قبل المغرب على منبت الدرب أنا والبنات نتلاقى .. ما تواصينا بالصمت قبله لكنّا ما نتكلم .
يمر الرجال ، وحين تغيبهم وجهاتهم نصطف ، ندحرجها في ساقتهم .
تسكن شلفتي فأهرول ناحيتها ، أنفض عنها التراب ، ثم أمضغها . ملوحتها تكوي بطن لساني ، أخفف لسعاتها برجال أصفُّهم في عين الشمس قاصدين أبي .
تمتصنا المسالك من حيث لفظتنا وفي آذاننا الهمسة الأخيرة : ” لا ماء الليلة ”
في مرقدي أتقلب بعينين مغمضتين ، أغري بهما النوم ، وعلى موردنا صباحاً نجتمع بقِربٍ سيطول عطشها ، مشغولات نحن عنها بالبارحة ورؤاها .
أسأل نفسي مرة أخرى : من منهم سيكون قريني ؟ فيما تقاربت الرؤوس لتسمع الحلم الأول ، قالت : وجدتني على ماء آل فهاد !
نضحك ، وتهمس الثانية : أما أنا فقد شربت من ماء آل مرضي ..
بعد الدهشة بلحظة نصبَّ السؤال في جوفها : يعني يطلقك خشمان ؟! رفعت رأسها وقالت : أو يموت ..
قلت لها : آل مرضي أجاويد ..
نظرتني العيون كلها مقررة أنه دوري لأحكي .
تذكرت ماءنا هذا ووقفتي عليه في الحلم ، أخبرتهن فانطلقت صرخة : ما قلت لكن ؟! عيال عمها والله ما يخلونها .
أصد عن بقية الأحلام وأتذكره ، وقفته كسيف ، رقصته مع الرجال حول السيل متلثماً بشماغه ، متحزماً ، أنظر لصورتي في الماء ، أراه هو أيضاً ، أودعه ولو لم يعرف ، أملأ قربتي . أرفع الصوت وينشدن من خلفي :
” ليت الحبيِّب ولد خالي *** ماله دنايا يحجرونـــــه
ويــــاه في راشنٍ عــالي *** وأمز من صافي سنونه ”

*********

2

” آه بكيته إن شاء الله !! لا وجه ولا جاه ” أرميها بينهن كأول مرة شققت الضلوع عنها ، يضحكن ، يقلدن صوته ومشيته ، ثم يصبرنني .. وبطرف برقعي حين أغادرهن أمسح دمعة تتناسل شمالي النخل ..
أستند لآخر غرسة فيه مولية وجهي جهة الخلاء وأصرخ ؛ بأعلى صوتي أصيح ، وألتفت بين وقت وآخر جهة البيت خوف أن تخرج عجوزه فتسمع وتخبره ..
آخر مرة عرف أني أطلب الله ياخذه أشبع الحطب من لحمي ..
من بين النخل تنبت : ” كل ما ضاقت بك افعلي مثلي ولا تشمتي فيك النسوان ، احفري ، وادفني ..ترى الرمل يبلع الوجع ”
تروح وأبكي ، وفي ” الحابوط ” أحفر أول حفرة ، أنحني عليها ، أبذر فيها قهري : يا رب خذه أو خذني .
أسوي الأرض بما نبشت من ترابها وأروح ..
أدخل البيت ألمح ” الميزب ” المعلق على باب ” روشننا ” أومن أن الحفر ستكثر ، وأن الوجع في أوله .

*********

3

هو العيد ، المسجل الكبير ترن فيه أصوات مطربينا ، نرقص ، نغني معهم ، ثم نغلق باب غرفتي ، نتلاصق لنفتح حكاية كل عيد : أيُّنا ستتزوج قبل البقية ؟
تتحدث كل واحدة عن ذاك الذي اسمها مقترن به ، في بعض العيون شغف ، وفي ألسنةٍ خجل ، وفي صدري وهج .
كان عيداً عادياً لولا أنها عرضت علينا فكرتها ( لعبتها ) قالت تعلمتها في رفحاء من العراقيات ، لعبة رائعة ، ونتائجها مضمونة ، نستطيع أن نعرف بها إن كنا سنرتبط بهم أم .. بغيرهم ..
لم تمنحنا الوقت لنقرر ؛ من صدرها أخرجت ورقتها المطوية بعناية وبسطتها ، بحزم لا يشبهنا كلنا وضعت إصبعها تحت كلمة في وسط الورقة ، ورددنا كلنا : ” حزوفك ”
قالت ناقلة إصبعها ببطء من حرف لآخر : الحاء رمز الحب ، والزاي رمز الزواج ، والواو رمز الوفاء ، والفاء رمز الفراق ، والكاف رمز الكره .
كل واحدة تكتب اسمها واسمه ، وتحذف الحروف المشتركة ، ثم تحصي عدد الحروف الباقية ، وتمرر العدد على حروف ” حزوفك ” لترى عند أي حرف ( عند أي معنى ) ستتوقف بها اللعبة .
نتضاحك ، نتسابق لدفاتري ، ننزع من صفحاتها ما يكفينا .
الضحكات تقطِّعها الأنفاس المتسارعة . من على يميني تصيح : زواج ؟ الله !
همست الأخرى : كره ؟! كره ؟! لماذا ؟ كيف ؟! أكرهه أم يكرهني ؟! مستحيل !! من يكره من ؟!
تنظر لي مقترحة اللعبة ، وتبتسم لأتشجع ، وحين لا أفعل ، تدس رأسها في حجري ، تقرأ الورقة التي ترتعش بيدي من ثقل حرف الفاء .
أسترجع سؤالها هي على الهاتف قبل أيام ، وهي تستحلفني : على طول هذه السنين ما سمعتِ منه كلمة أحبك ؟
وأحلف : والله ما قالها .
تكذبني ، وأحلف ، وأشرح : كلما التقينا صدفة .. في كل جلسة للعائلة .. كلما سقطت عيني في عينه أو خاطب لساني لسانه أحسستها دون أن ينطقها .
أبلع عبرتي ، وببطء ألتفت للمسجل ، أرفع صوته . يعاودن الرقص ، وأدس الورقة في صدري .

*********

– ” حكيٌ في الفايت نقصان في العقل ” نصف ساعة ما سمعت الباحثة المتغنجة مني غيرها .
تغلق دفترها الكحلي المذهّب الحواف وتخرج .
تصلصل السلاسل وأقفال الباب في يد التكرونية المقدودة من حجر ، والمتأنقة ذات الدفتر ترشوني ببسمة توديعية علي ألين لها لاحقاً فتكتبني .
أجلس على الفراش الرمادي الذي ما عادت بقعه البنية ولا رائحة البول القديم فيه تضايقني . أتمدد ، عيني معلقة بالكوة الصغيرة العالية ، وحدي وقلبي الفاضي هنا ، لا رجل أخدد وجه الرمل لأستكتمه حبه أو قهره ..
آخر من كان يقهرني أرحت الدنيا منه ، ألقمت حفرة جسده المدمى ، وأرحت بقية الحفر من أن تحمل شكاواي منه ..
الآن ماذا أفعل ؟ ما من شلفة أرميها في أثر رجل ، وما من دربٍ قريبٍ ليمر فيه رجل ، وما من واحدٍ اسمي مقترن به لأدير ما لا يتساقط من اسمي واسمه على ” حزوفك ” ماذا أفعل ؟
سألعب باسمي والتكرونية ، أو بي والباحثة لو عادت .

٢٠٠٥م
نشرتها في موقع جسد الثقافة
هل تود معرفة كل جديد ؟
يمكنك معرفة آحدث ما تم نشرة أول بأول , كل ما عليك هوا إضافة بريدك الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *