تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » آخر فرصة

آخر فرصة

بكتفه الصلب زاحم إبراهيم الجموع قابضاً على مرفق أخيه. وقف بقامته المديدة أمام المضيف الذي أشار بيده إلى مقعديهما وبادل الفتى الأصغر ابتسامته.
غضب إبراهيم ودفعه أمامه ليجلسه قرب النافذة. جلس بجواره ثم دنا منه: لم ضحكت له؟
رد ناصر بصوت عالٍ : ألضحك حرام؟ ثم هو ضحك أولاً.
كلمات شقيقه ونبرته أربكته. لعن سراً كل الذين لا يعرفون من الحرام سوى اسمه. جال ببصره خلسة في المكان ثم لفّ ساعديه على صدره وثبّت ناظريه على ظهر المقعد أمامه. فيما انشغل ناصر بتفحص ما حوله؛ ألصق خده بالنافذة ثم تحسس حوافها، عبث بالحزام وانتزع الكتيب المخبأ بجيب المقعد، قلّبه على عجل. بانت الفرحة على ملامح وجهه الطفولي التي باغتها الشارب الخفيف قبل أن تنمحي . ولأنها المرة الأولى له على الطائرة فقد صفّر بنشوة لما أعلن عن  إقلاعها. لكزه إبراهيم بكوعه ناهراً: اقعد زين.
هدأ رغماً ليعاود إبراهيم تحديقه في المقعد الذي انشق ظهره عن صورة أمه كساعة غادرها بعينيها الدامعتين وصوتها المنتحب : أخوك ما كان كذا أبداً.. والله ما مشى في ذا الطريق وهو واعٍ. الله يلعنهم ( عيال الحرام ) كنت حاسة بكل شيء؛ طلوعه الكثير من البيت في أوقات غريبة، مماشاته للخايبين.. أنا نصحته لكن.. ما في يدي شيء.. وأبوك أخاف أن أقول له فيذبحه.
عض إبهامه وأصداء كلماته هو تضج في رأسه: الخاسئ .. يبيع نفسه؟! سيفضحنا بين الناس.
دموعها بللت صدره وهي توصيه: ترفق بأخيك – وأنا أمك – الله يهديه!
دخل المضيف عنوة إطار المشهد فتناول منه كوباً لم ير ما فيه، قدّمه لشقيقه فرشف منه رشفة ومده به: ما أحبه ( عصير أناناس )
براحته الباردة رد كفه وقال: اشرب وأنت ساكت.
أدار وجهه من جديد وأسند ذقنه على إبهامه فيما غطت بقية أصابعه فمه. رأى سحابة تقترب من النافذة فتحطمها مفترسةً ناصر. نفض رأسه مستعيذاً بالله من الشيطان الرجيم.
بعد قليل هوت الطائرة في الصحراء فراح في غيبوبة قصيرة تلاها بحث له محموم عن ناصر الذي وجده متكوماً قرب عجلات الطائرة والدم متخثر حول أنفه وأذنيه. بعدها مس ناصر كتفه هامساً : ما تنزل؟ وصلنا !
في الفندق انشغل إبراهيم باستيفاء إجراءات السكن فيما كان ناصر يحيي موظفيّ الاستقبال مصافحاً إياهما.
جذبه نحو المصعد، أغلقه عليهما ثم ألصقه بزاويته ضاغطاً بيده على عنقه: ويل لك إن لقيتك تكلّم أياً كان .. من ذا الحين حتى نطلع من الرياض.
حارت دمعة في عين ناصر وسأله متلعثماً: أهلي أرسلوني معك يعاقبونني لأني رسبت في الاختبارات؟!
نظر إبراهيم لصورته غير المنتظمة الملامح على جانب المصعد اللامع فبادرته قائلة: أخوك يستاهل العقاب على أمور أخطر.
اقتحم ناصراً بعينيه ثم قال: يمكن أمي غلطانة، لكنها ( أمه ) تعلّقت بساعده بباب الغرفة صارخة: خالك يقول أنه يروح مع كل من يريده وبأي ثمن.. ألحقه قبل يضيع يا ولدي.
بعد أن تناولا العشاء تمدد ناصر على أحد السريرين وسكنت أعضاؤه. أطفأ إبراهيم الأنوار واستلقى على السرير الآخر ثم تناول الريموت كنترول وبضغطات متتالية تجاوز عدة محطات لتوقفه صورة راقصة تؤدي وصلتها. تابعها قليلاً ثم تحول عنها لقناة أخرى. حالت أمه بينه والشاشة : ما ينفع معه إلا العلاج.. خذه للطبيب النفسي .. هاك عنوانه.. خالك حجز له موعداً لكن احرص ألا يراكما أحد يعرفنا.
التفت لثوبه المعلّق في الخزانة المفتوحة، جيبه السفلي يشف عن ورقة أمه الملونة.
اختفت أمه فاحتل وجه غانية صغيرة كل الشاشة. ابتسمت بدلال وأشارت بيدها فأحس بحرارة تجتاح جسده. ارتعشت أطرافه وهو يزيح الغطاء جانباً. ابتلع ريقه، التفت لناصر المنطوي في فراشه، تركزت نظراته عليه وتساءل: كم واحداً أدار -“ولد الخس ” له ظهره راضياً؟
عادت عيناه للفتاة فقدمت خدها للبطل. فتح إبراهيم زر قميصه العلوي ثم رفع رأسه ببطء واستوى جالساً. تسارعت نبضاته وهو يعاود النظر للنائم بجواره. رمى بنفسه على سريره مديرا وجهه للجهة الأخرى، غطى رأسه بلحافه. مرت دقائق معدودة أزاح بعدها طرف الغطاء ونظر للساعة، وجدها تسير ببطء نحو الثانية صباحاً: موعد الطبيب في التاسعة.. باقٍ سبع ساعات.
مع آخر نغماتها انقض إبراهيم على ناصر واحتضنه مثبتاً يديه بساعده مكمماً فمه بيده الأخرى. التفت نحوه مرعوباً. علت الدهشة ملامحه شبه الغافية.
كان إبراهيم يهزه ورعشة عنيفة تجتاح كامل جسده. تراخى ناصر وهو ينشج عاضاً بأسنانه وسادته فصرخ فيه الآخر: لا تخف.. لا تصرخ.. لا تفضحنا.. الصبح الدكتور يعالجك.
١٩٩٦م
في مجموعتي القصصية “وحدي في البيت”
هل تود معرفة كل جديد ؟
يمكنك معرفة آحدث ما تم نشرة أول بأول , كل ما عليك هوا إضافة بريدك الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *