،* في الصباح الأول قبل بزوغ الشمس كنا في المحطة ننتظر,قطة سوداء خرجت – من حيث لا أدري – تتمطى، لمحت,, فتجنبتنا, لا تراعي يا جارة لا أحد سوانا هنا: هن
هاربات من الفراغ، وأنا – ربما – هاربة من العمل, كلنا أليفة,
،* مدت الشمس أذرعها الطويلة متثائبة فسقطت إحداها على وجه الحافلة المكفهر فزعق علينا، تتابعنا ملبيات، أسرعن خاليات الأيدي والأذهان ولحقتهن قابضة بكفي
اليمنى على حفنة آمال وبالأخرى حفنة أوجه حبيبة لصاحبات ودعتهن – ربما – الوداع الأخير,
،* آخر مزرعة في الديرة تلوح بجريدها مودعة فيما تصفعنا أول العلامات المركوزة على جانب المارد الأسود معلنة أن المسافة الباقية ثمانين كيلاً, أخرس اللوامة
بداخلي وأذكر حديث سيد الخلق: من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ,
ابتهل إلى الله: اللهم اختلطت النوايا – وأنت العليم – رب سهل دربي ولا تكلني على أخلص نواياي,
،*في الحافلة التي تأخذني بعيداً لا يدنو مني – يا صغيري – إلا خيالك, وحده يوشوشني: يحكي لي عن دوسر صديقك الجميل (أجزم بذاك دون أن أراه) صوتك يترجع
بأعماقي دهشاً: لقد تغير تماماً بعد أن قص شعره، خيالك يسخر مني من قدمك التي تحسن التسديد إلا على المرمى الواسع في حصة الرياضة,
،* نشرف على الوصول لوادي الدواسر فتزيح يد خفية ستائر النوافذ القريبة مني لتلتصق بها وجوه أعرفها تستنكر فعلي، تخمش روحي بأسئلتها: ماذا عنه؟ ألم تفكري
فيه؟ كيف تخلينه النهار كله وقد ازدادت حاجته إليك؟ أكلُّ ذا لتلوي عنان حلم جموح؟!،
يناشدونني باسم التضحية، باسم الأمومة الحقة (إن كنت أعرفها) الآباء المثاليون الأمهات المثاليات هؤلاء الذين يحفظون أسماء أبنائهم وأعمارهم ومراحلهم
الدراسية لا يمكنهم قياس الأمر بغير هذه الحدية (إما أن أكون أنا أو تكون أنت),،
هم يا فتاي يجهلون أني لا أقدر أن أغرس نبتة فيك قد جفت جذورها فيّ,
،* أمام مبنى الكلية الضخم تجثم حافلتنا مع شقيقاتها لتمج (جميعا) من في جوفها أدخل من حيث يدخلن وأتجه حيث اتجهن ثم أمسح بناظري ألوان الطيف التي بزغت من
الشرانق السود، يطالني أول وجه مألوف فأتشبث بصاحبته مستنجدة بها لتوصلني إلى حيث ينبغي أن اكون,
،* أول أستاذة تدخل قاعتنا أتلقفها؛ أرصد حركاتها وسكناتها؛ فيم تشبهني حين كنت معلمة؟
فيم تختلف عني؟ لما قالت بأن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه كنت أستنطق الشاخصات إليها (أتصفح وجوههن) أسائلها: أيّكن سيغدو أثيراً لدي؟ لكنها لا تجيب,
ثاني أستاذة ألقت سؤالها الأول فاستحيت أن أرفع يدي, بعد سؤالها الثاني حركتها قليلاً على الرابع أجبتُ فهتفت: أحسنت بردت أطرافي وقد فر الدم الحار منها
مندفعا صوب وجهي وأذني ثم أحسست بهما شريطين أبيضين من الساتان نبتا على جانبي رأسي,
حين اقبلت الأستاذة الثالثة كنت قد لبست وجه الطالبة كاملاً حتى إني كدت أتهرب مع نزقة اخرى من الحضور,
،* لما وصلت منزلي في الثالثة عصرا استعدت شريطا مكتظا باحداث منمنمة بدأ قبل الفجر فتذكرت كلمات فيلسوف صغير قال مرة: أنا الزمن ,
أظنه صدق فالسويعات الفارطة ما استطالت إلا لأني حشوت دقائقها بالجديد,
،*دخلت، ألقيت على أمي تحية مقتضبة ثم تذكرت موقفها السابق من قراري العودة للدراسة فاستبدلت وجهي بآخر طلق مظهرة حيوية مفتعلة امام نظراتها المتفحصة,
بعد المغرب توالت هواتف زميلاتي السابقات فلعبت الدور نفسه نفضت الغبار عن لساني وتحدثت جذلى عن دنياي الجديدة وإن لم أنس أن أقول اني اشتقتهن,
،*صباح اليوم التالي، من بين رفقة طيبة انسلت بي قريبة مخلصة وانتبذت بي ركناً قصياً، بحرارة سألتني: لم قلت ان الدراسة سهلة؟ ضحكت: لأنها كذلك,
تلفتت ثم همست بأذني: لا تقولي ذلك مرة أخرى حتى لا ينظلنك (يصبنك بالعين),،
* كتبت هذا المقال في الأسابيع الأولى لتفريغي للدراسة لإكمال تعليمي الجامعي بعد سنوات من العمل في التعليم
جريدة الجزيرة
* كتبت هذا المقال في الأسابيع الأولى لتفريغي للدراسة لإكمال تعليمي الجامعي بعد سنوات من العمل في التعليم
جريدة الجزيرة
سبتمبر ١٩٩٨