تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » كروشيه حصة الاحتياط

كروشيه حصة الاحتياط

على أعتاب المتوسطة تجمّعنا، فرحتنا باللون الكحلي سحقتها صدمة أننا كتاكيت المدرسة، كنا الكبيرات في الابتدائية وهوينا، افتقدنا فجأة مديرتنا التي تخاطبنا كما لا تكلم طفلات الثاني والثالث الابتدائي.
في المساحة الاسمنتية الصغيرة عند بوابة الخروج البنية قعدنا، نحكي لبعضنا أحداث نهار لا نستوعبه، وأحجام زميلات أقرب لقامات أمهاتنا.
زميلة تقلّب الكتب الكثيرة التي سلموها لها: “شكلها صعبة”
وسط حلقتتا فايزة الأولى على الدفعة، بنت أبوها يمني وأمها عراقية، شفتاها الرقيقتان حجبت أسنانها الكبيرة الناصعة وهي تزن المتكلمة بعينها، تشمئز من كسل زميلتنا واعتذارها مقدماً عن مستويات ستقدمها: أنا سأنجح بامتياز وأدخل علمي وأصير طبيبة.
أنا في زاويتي البعيدة أعالج صدمتي الأقوى، فبينما كنا نموج بين الفصول بلا هادي سدّ الدرب عليّ ثوبٌ بني طويلٌ عريض، أحمر الشفاه في شفتين غليظتين اقترب من وجهي، ضمّت أصابع البنت المكتنزة وجهي وخضته، قالت: يا زينها.. أنت تزورين المدرسة مع أحد من أخواتك؟!
بإيعاز من فايزة بدأت الزميلات يتخيلن مصيرهن: معلمة، معلمة، معلمة، “باعرس وأقعد في البيت”
التفتت فايزة لي باترةً سيل الضحكات وقالت: وأنت يا أمل؟
التفت الجميع لي فتدفق الدم حاراً في أذني، وضجتا بنبضاتي، ثَقُل لساني، فايزة تعرف أني خرجت من الابتدائي في أواخر القوائم، وكدت أرسب في التفصيل والخياطة، كل المدرسة تعرف ذلك فقد قالتها رائدة الفصل مدويّة وهي تمدنا بجوازات عبورنا الخضراء للمرحلة المتوسطة.
قلت: سأدرس في كلية الآداب؟
كنت قد سمعت العبارة في مسلسل مصري، وفي قريتي الصغيرة لم يكن حتى معهد المعلمات قد فتح أبوابه ليبتلع فصلي كله.
أصابع كفها اليسرى كنست عبارتي من دائرة النقاش بقرف: يعني إيش كلية آداب؟! يعني بتطلعين مدرّسة بعد أنت؟!
استدار ذقنها الحاد، لم ينتظرني لأقول كلمة أخرى، وقد شكرته من كل قلبي على ذلك قبل أن أدفن اللحظة في قاع ذاكرتي، فلم يكن لدي ما أرد به.
بعد سنتين اختفت فايزة، أمي التي تعرف أهلها قالت: راحوا للرياض.
ست سنوات كنت أتقدم فيها بثبات صوب المراتب الأولى في فصلي حتى تخرجت من معهد المعلمات الثانوي، وخيروني فاخترت العودة لمدرستي القديمة معلمة، ومثل فايزة كنت أشمئز من بوادر الغباء والارتباك.
في سنة تدريسي الأولى كانت “س” أغبى طالباتي، صبية في الخامس الابتدائي أدرسها مواد اللغة العربية وتخطئ في كتابة اسمها، في ساحة المدرسة أراها صدفة تركض وتلعب وتضحك حتى.. وأقرر أن أذكرها بذلك إن ارتخى جفنها في فصلي، تبدأ حصتي فتجر كرسيها لآخر الفصل، تذبل عيونها، تتباطئ رمشات جفونها، وتنخفض أنفاسها، لا معلومة تهمها أو تحدث أثراً في رأسها الفاضي.
أغضب، أسأل سؤالاً، وأدير رأسي كأني سأتصيد من أريد سماع صوتها، وأتتبع وجهها، تنتفض كلها، يتابعني بؤبؤاها واسعين، تنكمش رقبتها، أنفاسها تفح مكتومة، تنسحل في كرسيها لتكون في الزاوية العمياء عن نظري.
تخبرني قريبتها التي هي جارتي في غرفة المعلمات أنها تكرر طوال حصصي “وجعلنا بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً” حتى أنتهي من جرد مواهب الحفظ واعترافات الخيبة
دخلت فصلها في حصة احتياط، سحبت الكرسي المنبوذ في الزاوية باتجاه الطاولة المخصصة للمعلمة والتي لا تختلف عن طاولة الصغيرات( إن وجدت)
مقابل طاولتي كانت “س”، انتفش في ذاكرتي ملفها الأسود؛ خمولها، إهمالها وسوء خطها وإملائها، لو طلبت مني أن تخرج لدورة المياه لما لبيّتها، بعد لحظات همست لها مجاورتها بكلمة فاستأذنتا مني بتلعثم بأن تكملا واجب التربية النسوية، فكرت بأن أرفض بحزم ثم اهتزت أصابعي تهشهما عن تفكيري: “طيب بس بدون صوت”
أخرجت سنارتيها، فالتوى جسد الفصل حولها، غدت ملكتهن، هامتها أعلى ويدها الصغيرة تمارس سحرها، أصابعها التي ترتبك في الإملاء تغزل بمهارة وكل العيون ترصد كل حركة باحترام لم أره في أعينهن لي.
من بين كل المواد اختارت الصغيرة البليدة إتقان ما كدت أرسب فيه.
خرجت من الفصل مختلفة جداً، هذه الصغيرة في حصة التربية الفنية والتفصيل لن تعض أصابعها، لن يدق قلبها بعنف خوف أن تشير لها المعلمة لتعرض ما لديها، لن تربكها السبورة وهي تتحداها أن تثبت أنها شاطرة.
خرجت وبدأت أحرث كل الكتب المتوفرة بحثاً عن إجابات أسئلة التربية الكبرى، وبعد ست سنوات أخرى قرأت في كتاب لبروفسور أمريكي كتاباً عن التربية، وفيه قرأت قصة مدرسة الحيوانات حيث قرر عدد منهن فتح مدرسة لهم وخططوا لمناهجها فأصر العصفور على درس الطيران، والسنجاب رأى الأهم تسلق الأشجار، وفرض الفأر عليهم نقب الجحور، ولثعبان الماء دروس السباحة، وكانت مدرسة فاشلة بامتياز، الفأر أنهكته محاولات الطيران، وكاد العصفور يغرق وهو يتعلم السباحة، وفي النهاية عجزوا حتى عما هم مؤهلين له.
أربكتني الفكرة، وأحسست بعبثية المدارس، وجاء طوق النجاة بتفريغي لإكمال دراستي، حيث التقيت عقولاً أخجلت معرفتي بامتلائها، وأخرى هذبت فوقية نبتت على حواف سنوات خدمتي وهي بألقابها الأكاديمية تحترمني كدارسة.
أخي المعلم أختي المعلمة تأملا وجوه طلابكما هل فيها وجه لا يهتم بكل ما تقولانه؟ لا يحركه شيء في حصتكما؟
هل رأيتما خاملاً لا ينشط إلا وقت الخروج من الفصل؟
هل حدثكما زميل أو قريب عن صغير صباحه نواح لأنه سيأتيكما في المدرسة؟
ربما كان أحدهم عصفور تعلمونه السباحة؟
وراء خطوة صغيرة تربكها الكسور أوالهمزات على سبوراتكم قد تكون أصابع فنانة تحسن عمل الكروشيه، تحت اللسان الثقيل الذي ينبش ذاكرة فارغة منكم ليرضيكم ربما- أقول ربما – هناك أديب بذرته كامنة في تربتها ستشق وجه الأرض وتسمق يوماً.
وربما هذا الصغير يُجِل آيباده في البيت أكثر، بتكة وهو في سريره يسرد له كل العلوم التي تهمه،  يشبعه دون أن ينتقده أو يقارنه بغيره فيكسر خاطره.
الصغار في فصليةما يعرفون برامج في الفضاء الإليكتروني لم تسمعا بها، وعدد الفلورز في حساباتهم في تويتر الذي فتحوه بعدكما سيفوق في شهر ما تجمعانه في سنوات.
هذا وضع مربك لكما أدري، فأنتما لم تعودا أسياد المعرفة المتربعين على تلها، فماذا لديكما لتقدمانه؟ ارجعا لذاك الصغير في داخلكما على عتبة مدرسة كبيرة من المعلم الذي تتذكرانه؟
بثقة سأجيب عنكما فأقول: اثنان؛ من رأى تميزكما ، ومن “نفخ عليكما”
دع عنك الوزارة ووعودها المكررة ببدل السكن والتأمين، وحركات النقل التي تسبق باعتذار وتلحق باعتذار ولا ترضيك ولا زملاءك، انسَ قليلاً قلقك من المناهج التي ترجمك بها كل عام دون أن تدربك على التعامل معها.
وأنت انسي قليلاً كسل خطوة إدارية تبسط أمامك سجل الاحتياط بعد حصة مرهقة، اخفضي في رأسك صوت المديرة تطلب نشاطاً “يطوّل وجهها” هي عند الإشراف، وتجاهلي قطة الفطور أو قطة أم فلان أعرس ولدها وقطة فلانة عملت عملية وعادت للمدرسة، وقطة النت لأن باسوورد المدرسة تغيره المديرة كلما غضبت.
نسيت أن أقول لكم أن فايزة الآن طبيبة نساء ممتازة في أحد أكبر مستشفيات الرياض، ولا أظن أن ذاكرتها الفولاذية احتفظت بوجهي الطفل وخجلي، ولن تتذكر جلستنا في المبنى المستأجر الذي سمع أحلام صبيات وشهد على ظنهن بأنفسهن، لو تذكرت فستتفاجأ بأني بعد المعهد بسنوات درست في كلية تربية وآداب، وأني صرت أديبة.
مجلة المعرفة
هل تود معرفة كل جديد ؟
يمكنك معرفة آحدث ما تم نشرة أول بأول , كل ما عليك هوا إضافة بريدك الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *