تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » غبار وردي

غبار وردي

‎مجلس العزاء ينقصه شيء ما. الدموع موجودة ( قد تسيّل شعيبا جافاً لو احتسبنا دموع أمه التي تذرفها من سنة  ) الماء والمناديل الورقية: المناديل لمسح الدموع، والماء لتعويضها في الجسم.

‎حجرتان أثثتا على عجل بنساء وحزن، تنبعث منهما شهقات متوقعة ومفاجئة بين ثانية وأخرى، شهقات كتدريب متوتر وأخير لأفراد فرقة على وشك أن تعزف.

‎في مجلس الطرف الآخر من البيت دموع الأب مجرور على ربابة يخشى المحيطون أن ينقطع وترها.

‎المساحات بين البكائين يركض فيها أطفال بملابس ارتجلتها – مع خروج الأمهات الجماعي – خادمات أو شقيقات صغيرات، حضور الصغار النشط غير مقلق لأي كان.

‎بجوار أم الفقيد قعدت أم فقيد سابق، هذا مكانها المعتاد في أي عزاء، وإلا فكيف سيتذكر الناس ألمها؟!

‎كل عزاء تكوم لحمها الكثير وتزفر مع كل إنحناءة لمعزية تقبّل رأسها. 

‎كالعادة مدت ساقها اليسرى وبدأت تنثر نتفا من حكايات ميتها وكم صبرت.

‎فقيدها يموت على الألسن بين عزاء وآخر وتبعثه المصائب. يسمح لها الباحثون عن مواساة بأن تحكي وتبكي، ويتغاضون عن أي إضافات لسيرته لم تذكرها في عزاء سابق.

‎عن يسارهما امرأة مسنة وعصاها. بعد أن ملّ عيالها وأحفادها صحبتها صارت تزور كل موت، والبيوت الباكية مضيافة؛ لا تتوقع استئذانا لدخول ولا تبريرات لمشاركة. 

‎في كفها الذابل مسبحة بها ألف حبة، أصابعها تفرز الخرزات وسمعها يصنف عبارات المواساة. 

‎سلطة العجوز على حزنها كبيرة، لكنها لم تجربها على أحزان الأخريات إلا في السنوات الأخيرة. حفظت من الردود ما يكفي لجعلها مؤهلة لتسيد المواقف، همها ألا يتحول البكاء إلى نياحة، و ألا تمرر كلمة فيها شبهة سخط (الله من يقبض الأحباب، وهو يفعل لأنه يحب من أخذهم أو يحب من تركهم ويريد اختبارهم بنزع من يحبون من أحضانهم)

مؤخراً تسامحت مع لوم الثكالى لداعش وتجاهل أنه قضاء الله، الحكومة والمشايخ يلومونها، وهؤلاء لا يمكن أن يتفقوا على باطل.

‎حين سمع أهل البلدة اسم داعش أول مرة لم يفهموه، ومن فهم ظنها فرقعة إعلامية. بعد حين أقسم بعضهم إنها صنيعة المخابرات الأمريكية التي لن ينخدع بها المسلمون هذه المرة، بعضهم حسبها مزحة سمجة سينتبهون منها يوما ويضحكون، مع كل ولد في الديرة يروح كانت المزحة تبدو أثقل وأغبى.

‎قبل ثلاثة أعوام رُفع علم أسود في مسجد أحد الأحياء فتفشى اسم رافعه كملح مجروش فوق جرح لم ينتبهوا له من قبل، لم يكن اسماً في جريدة بين قائمة مطلوبين لا يعرفونهم؛ الولد ولدهم، ولعب مع عيالهم في الشارع، درّسه بعضهم في المدرسة، وخطب له أهله بعض بناتهم قبل أن يهرب. عندما لحقه آخرون انهار وهم الثقة بين آباء كثر وعيالهم. 

أمهات دواعش وجداتهم زرن أم الفقيد الجديد. حضورهن يذكر بغياب جثث العيال. كل ما حصلت عليه البلدة أخبار غير مؤكدة في اتصالات هاتفية قصيرة من هاربين آخرين. 

‎غابت أشلاء العيال وخطاياهم، لا أحد يريد أن يفكر فيما اقترفوه هناك. تبتهل الباكيات أن يمحو الله زلاتهم، وأن يحاسبهم على نياتهم لا على أفعالهم.

*******

‎قبل سنة

‎حجرتان أثثتا على عجل بنساء وفزع. في الحديقة – التي ستمهل لعام – عباءات ترفرف بقلق وهواتف محمولة لا تتوقف عن الرنين وردود هامسة: الخبر أكيد.

– قال إنه ذاهب للعمرة.. هذا ما قاله لأهله.

  قبل ساعتين أرسل رسالة واتس وداعية وأغلق الجوال مرة أخرى.

‎دموع قليلة تُمسح قبل أن تلفظها المحاجر خشية أن تثبت أسوأ الظنون.

‎في المجلس اعتذارات الأب: عاهدني ألا يذهب.. أخفيت جوازه من أشهر.. والله إنه خير عيالي!

‎⁃ لعلهم يقبضون عليه .

‎⁃ سيعبر من تركيا لكن الأمن صار أفضل .. من أسبوع قبضوا على ثلاثة على الحدود.  

غص البيت بالناس؛ البيوت المفجوعة لا تحتاج استئذانا للدخول. 

‎بين البكائين يركض أطفال بملابس ارتجلتها خادمات وشقيقات صغيرات، حضورهم النشط تكبحه ألسن الكبار، تدمغه بلعناتٍ تبطئ حركتهم قليلا ثم يستعيدون صخبهم المزعج للجميع.

‎لا أحد يريد أن يتحدث عن الدواعش ( ليس بعد ) الكل يعصر ذاكرته ليبحث عن أشخاص حقيقيين عادوا لأهلهم كالولد الذي عرضوا صورته في التلفزيون وأمه تستقبله وتحضنه.

‎لا يبكون مع الأم، الدموع ستؤجج هلعها وتؤكد تكهناتهم.. حتى أمهات الدواعش الذين شبعوا موتاً لم يبكين أمامها.. الكل يحاول أن يكون أقوى.

‎عجوز المسبحة ليست هنا، هي في مكة للعمرة، القليل من السخط على الألسن لن يجد من يقمعه.

‎أخوال وأعمام وجدوا في المجلس من يهنئهم: احمدوا ربكم أن قد ذهب قبل أن يذبحكم! تعملون مع الحكومة في جيشها ..  أنتم ألد أعداء الدواعش وأكبر غنائمهم.

‎كان صعباً أن يتخيل الأقارب الفتى الذي كان في قلوبهم وأحضانهم ينحرهم، غدت الصورة المقترحة أقبح ووجه الأب يلتفت فيهم ولسانه يتضرع : ” ما يسويّها.. والله ما يسوّيها”

‎لكن الخاطرة الفجة بعد أن مضغطتها ألسن كثيرة أنتنت في رؤوس العسكر.

‎مرة على رأس كل ساعة كان الضابط ذو المرتبة الأعلى يجد من يلح عليه بأن يشكر الله على النجاة من خطر لم يفطن له. بعد أن ترهقه مقاومة النبوءة الشيطانية سيكرر : الحمد لله على كل حال.

شحت دموعه، أنفاسه صارت أبطأ وعرق بارد يتقصد عن جبينه كلما شحذ لسان جديد سكينا ووضعه في يد الشاب الهارب، وفي الشهور القادمة سيعتاد مباغتة الداعشي له في منامه.

‎في طرف المجلس يصطف رفاق الغائب، بعد أسابيع سيتداولون سراً صورة بعثها لا يكادون يميزونه فيها: ستنبت لحية في خديه، وبندقية في يده، وسيتحلق حوله رفاق جدد مسخوا اسمه بكنية غريبة..

فتية سيجمعهم المجلس اليوم وبعد سنة، وبين التاريخين سيرفض آباء بعضهم استخراج جوازات لهم حتى لا تأكلهم داعش، أولاد آخرين سيقترض آباؤهم ليرتبوا لهم رحلات لأقصى الأرض لعلهم يتعلقون بدنيا الناس لا آخرة الأحزمة الناسفة.

خلال عام مات نعناع حديقة الأم، وشابت شعرات في مفرق الشقيقة، وستكون هذه خسائر جانبية لن يذكرها أحد.

سينسى الأهل أيضاً – ما في أيديهم غير النسيان – ضحية مؤكدة.. الفتاة التي أخبرهم في أحد اتصالاته الأخيرة عنها، لم يرسل صورتها لهم، ولم يطلبوا منه ذلك، لا يعرفون اسمها فكل ما قاله أنه تزوج سبيّة.

هل تود معرفة كل جديد ؟
يمكنك معرفة آحدث ما تم نشرة أول بأول , كل ما عليك هوا إضافة بريدك الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *