يجتاز ظلانا قطعة الرمل مخددة الوجه الفاصلة بين بيوت الطين والنخيل. أطأ ظلي وأعرف أن البيوت خلفي تدني رؤوسها من بعض وكأنها تتآمر علينا. نسير وتعترضنا شجيرة عِشر. تكسر رفيقتي غصنا يابسا من الشجرة وتشهره بأوراقه وأزهاره كرتونية الملمس في وجهي. حذرتها أن لو انصب حليبه علي فسألقي بها في البئر المهجورة. رمت الغصن، والتفتنا معا بحثا عن غنم فطيس، أو عن بقرة آل مسفر وعِجلتها الصغيرة، لم نر شيئا. قلت: تأخرنا.. أدخلوها أحواشها.
تدير رفيقتي حلقة المخرف الحديدية الصدئة حول ساعدها كمروحة، ثم تقول: جدتي ضربتني البارحة.. مسفر شكانا لها. يقول تيسه سيموت..
- يكذب.. تيسه هزيل، وأخوك ملعون.. حذّرته ألا يحلبه.. سنعود للبيت وأجلده.
قبل النخل، أقبلنا على ثلة من الصغار يتبارون في اللعب بين قوائم ناقة. رمحت واحدّا فخرج من اللعبة. اصطف بجوار اثنين سبقاه، الثلاثة ينظرون للناقة بغيظ، وبحسد للمحظوظين الذين لم يطردوا يعد.
الناقة لم تمل من اللعب، ضرباتها لهم لم تصبح موجعة وخاطفة، لكنها في الوقت الذي أقبلت فيه جهيّر بالت. لا أقول إنها فعلت ذلك لأنها رأت جهير، أقول إن الأمرين حصلا في الوقت عينه. خروج جهير أزعجنا أنا ورفيقتي. انزعاجي أنا صار غضبا حين رأيت سطلها البلاستيكي تيفاني اللون. ستخرف نخل أهلها وكنا ننوي سرقة رطبهم الأصغر حبات والأكثر حلاوة. نظرت لرفيقتي التي هزت رأسها أسفا. الناقة نظرت بعيدا وجهير تدس رأسها بين فخذيها، تتلقى جمة شعرها السائل الأصفر الكثيف، تريد أن تجعله يطول قبل زواج أخيها.
بما أنه لم يعد من مبرر للعجلة وقفنا نراقب جهير وسطلها المبلولين يبتعدان. دخلت رفيقتي لعبة الأولاد والناقة. لم أعارض لكني تمنيت أن تتلقى خبطة سريعة لنكمل سيرنا. نجت في محاولتها الأولى فتركتها وسرت في اتجاه مغاير لاتجاه جهيّر؛ ستتبعني.
رفعت رأسي للسماء، الشمس ستحمر بعد قليل وتهبط. مشيت مسافة حتى لم أعد أسمع ضحكات عيال الناقة. ربما نفتش تحت شجيرات القطن عن قنافذ، ثم نعود مع الشفق لبيتهم أو بيتنا. نستطيع أيضا أن نروع العصافير العائدة للسدر. الفكرة الأخيرة دغدغت قلبي. أسمع رفيقتي تجري ورائي وأنفاسها تتقطع. أواصل سيري الهادئ بانتظار أن تقبض على عنقي بطريقتها المفاجئة فأركلها بقوة. تجاوزتني واستمرت تجري. لم أر وجهها لكني أميز طعم الخطر في نقرات أقدامها للرمل والحصى. جريت مثلها وأنا ألتفت ورائي. كان بعير هائج يهملج في ساقتنا. عنقه السماوي يتدلى فوقنا. طرت متقدمة رفيقتي التي لم تكن يوما أسرع مني. اعترضتنا شاحنة ماء رابضة في مسارنا، صعدت قمة صهريجها. تبعتني رفيقتي. بين ظهر الصهريج المحدودب والسماء وقفنا عصفورين مذعورين. ترشح أقدامنا عرَقًا حارًا نخاف أن يزل بنا نحو شدق البعير المزبد.
رفيقتي تبكي بكاء لم أعد أسمع معه وجيب قلبي، ولا أفكاري. لم أميز زعقات الرجال: أينادون البعير أو يتنادون ليسيطروا عليه؟
البعير يدور حول الشاحنة، شفته السفلى تلمس الصهريج تحت أقدامنا بذراع أو اثنين. بدأت رفيقتي تسعى هرولة بين طرفي الصهريج وأنا واقفة مكاني.
البعير تركها والتصق بالحديدة الاسطوانية يمد عنقه صوبي. رغوة بيضاء تسيل من فمه، لها لون حليب الناقة لا رائحته. تصنّمت أحدق في عينيه ورغاءه يرج ضلوعي. جره الرجال بخطامه وأحكموا عقاله. ابتعدوا به ثم دنت رفيقتي. بمخالبها شدت كمي وهي صامتة. سال ماء أصفر نفاذ الرائحة على قدمينا، لا بد أنه منها.
في الليل، أندس في فراشي بين أشقائي الأصغر. تتربع أمي لتمسح بالفازلين عن أرجلنا مغامرات اليوم كله. الخدر يدبي في جسدي متجها لرأسي. أخي الأصغر مني بسنة يرجوها أن تصف له “عوافي الرحمن” وبسرعة يخفي رأسه تحت اللحاف.
ثالثنا قاطع أمي التي بدأت كالعادة ترتدي فروة أبي مقلوبة. قال إن جارنا سمح له أن يحلب معه ناقته اليوم. خوّفته أمي: لا تقرب الإبل، بعضها يرمح.
دخلا في جدال حول الناقة، ومنتظر القصة أخرج رأسه بعد أن يأس من الحكاية: يمه، الناقة تأكل العيال؟
ردت أمي: لا تأكلهم، لكنها قد تقتل. كان لشقيق جدك بعير نهش رأسه، وظل يومين في البر لا يدري به أحد.
طار النوم، لكني أغمضت عيني واستدرت للجهة الأخرى. سأخبر رفيقتي غدا أن البعير كان يريد أن يقطف رأسها، وأن جهير لا تغتسل ببول الناقة ليطول شعرها، بل ليحسبها ناقة فلا يؤذيها.
كبرت، وبيوت الطين ماتت، رفيقتي كذلك، ومخرف جهير. جهيّر حية لكن شعرها لا زال أقل مما تريد. البعير.. لن أقول إنّا صرنا صديقين، لكنه يلازمني أكثر من أصدقائي، يعودني كل سنة مرة كخسوف. يغير هيئته وصوته، وأعرفه بالرعب الذي يصعق جسدي إن أقبل. يأتي مرة في هيئة همّ أثقل من صهريج ماء ممتلئ، مرة أسمع رغاءه تحت ضجيج خبر صاعق، ومرات يقضم أصابعي.
بعيري الأحمر ذاته، وكل مرة يطليني بلعابه اللزج، لا يقضم رأسي ولا يعطيني زمامه.
مايو 2022