تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » بطيط

بطيط

رأيت السنارة برتقالية اللون منطرحة على حافة البحيرة. نصف جذعها في الماء تعبث به موجة كسولة، تؤرجحه بخفة ويرتفع وينخفض بلا مقاومة. خطم السنارة الرفيع مندس بين أعشاب اليابسة وحصاها.

اقتربت منها بحذر. كنت قد قضيت الليلة الفائتة أضع بيضي والحنق يملؤني: من بين عشر منهن لن تنجو أكثر من واحدة لتبلغ العمر الذي يسمح لها بأن تبيض، من تعيش منهن ستفهم بكثير من الجراح في الفم والرعب في البطن أن السماء لا تمطر دودات صغيرة حية.

حين تنشب تلك القطعة المعدنية وراء صف أسنان الصغيرات، لأول مرة يدركن أن الدودة الهابطة من الأعلى فخ. لا ألومهن فمثلهن أنا أنسى مع كل دودة أو قطعة لحم تتطوح في الماء. كل مرة أحاول خطفها بسرعة والهرب، مثلهن أفرح بفاتحة غذاء يوم بعيدا عن القيعان المظلمة بمخلوقاتها الرخوة الفظيعة وأذكر نفسي بحصافة رأيي حين لم أتبع الراحلين من إخوتي ممن عبروا باتجاه البحر.

كل مرة أنجو من موت محقق بنصف دودة في فمي وشفة مشرومة، نقاط دمي تتعبني بوهن ثم يذهب بأمشاجها في كل اتجاه ويمتص لونها.

بعد كل طعنة أظل نهارات وليالي أتذكر النصل الحديدي المعقوف ينغرس في سقف فمي، يفريه وأنا أقاوم هلعاً يعيقني والسلك غير المرئي الذي يجذبني للحافة.

لا أعرف هل أنا بارعة أم محظوظة، هذا النهار راقبت ثلاث سمكات يختطفن من بيننا. تعوم الأولى بهدوء، وفجأة يختلج جسدها بعنف فننفض جميعا من محيطها، يرعبنا ما يسحبها، نخشى أن نعلق به ونغيب معها.

نتجمد ونحن نتابع هيجان زعانفها القصيرة التي ترفرف لتغير اتجاهها القسري.

التملص معركة صعبة، أرى السمكات واحدة بعد أخرى تتقوس ظهورهن، تتلوى أجسادهن، تعوج أعناقهن عن اتجاه الخطاف المؤلم.

فجأة مع تلويهن يبرز الخيط القاتل بوضوح، يستقيم ويشد كل واحدة من فمها، تقصر به المسافة بينها وبين وظلال أقدام البشري على الحافة.

لن يدنو أحد من السمكة العالقة؛ سواء فينا من يبتهل لله أن ينجيها ومن يصد عن ألمها حتى لا يفتت الغضب كبده. ننسحب ووجيب قلوبنا صاخب أكثر من طرطشة جسدها في الماء. قبل أن تنهك السمكة الثالثة وتستسلم ابتعدت أنا حين تدفق سائل مثانتي دون إرادتي.

سنارة الصيد هنا وصاحبها غائب، أشيح عنها لأجد بصري شاخص إليها مجدداً. ظلت تناديني حتى وصلتها، درت حولها أفحصها، لمست بزعانفي كعبها الأسطواني. حاولت سحبها داخل الماء فصفعتني موجة صغيرة، اندفنت خياشيمي في الطين اللزج، تخبطت في الوحل والفزع يضيع حس الاتجاهات لدي.

غطست في الماء حتى هدأت، ثم عدت أقبض على السنارة فوجدت أن التحكم بها في الطين أفضل.

ثبتتها مثل البشري وأدرت الذراع المتصل ببكرة.

الخيط يتلوى مرتدا من الأحراش التي يندس فيها، ينبرم حول البكرة وأزيزه يعلو.

كمنت للبشري، أنتظره ليقبل وأصطاده بسنارته. سأسميها لتنغرس في خياشيمه أو فمه، سأسحبه للماء، لا أعرف إن كان طعمه لذيذ لكني سأجرب.

لم يأت، ربما لا يأتي.. ربما عرف أنني أنتظره، ربما رآني فاختبأ.

استبد بي يأس عرفته حين انتبهت أني لم أعد أرمي السنارة بعيداً. بعض الأسماك التي فَقَسَت قبل أيام انتبهت لي وأنا أوسّد السنارة حصاة على اليابسة، دعتني لأرافقها للبحر: يقولون أنه أعمق وأكبر وخيراته أكثر، وأخطاره أقل، ولا توجد سنارات فيه.

– من أنبأكن هذا؟

– قالته سمكة عادت من هناك.

– فما الذي أعادها؟

غمزت بعضهن لبعض ليكملن الرحلة، وكأني سمعت نميمة وهن يدرن وجوههن للبحر. كان أول الحشد على وشك أن يعبر بين الحافة الطينية والجرف الصخري حين نبتت فكرة برأسي، نضجت بسرعة فحرقت دماغي، كانت صفحة الماء تتلألأ بأنوار فضية، وسيقان نبتة دقيقة تلعب متمايلة مع حركة الموج. التقطت السنارة وأنا أضحك، لوّحت بالطرف الرفيع لها وألقيت سيخها المعقوف بينهن.

لم أصطد شيئا من تلك الرمية، لكن تبعثرهن جراء خبطتي المفاجئة ينبئني أنني سأعيدها. يجب فقط أن أعرف من أين يأتي البشري بالدود؟

************

 

هل تود معرفة كل جديد ؟
يمكنك معرفة آحدث ما تم نشرة أول بأول , كل ما عليك هوا إضافة بريدك الإلكتروني

تعليقات القراء

  1. قرأت القصة أكثر من مرة و لا زلت حبيسة النهاية “يجب فقط أن أعرف من أين يأتي البشري بالدود؟” – أكثر من تفسير يدور في رأسي.
    لا زلت أحب طريقة سردك للأحداث لأنك تكتبينها بطريقة مصورة حتى أنني تصورت شكل السمكة و كأنها السمكة نيمو في احد أفلام الكرتون التي سبق و أن شاهدتها
    دام فكرك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *